خطاب صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر للاليوم الدولي لحماية التعليم من الهجمات

الدوحة, 09 سبتمبر 2024

السلام عليكم،

 

مرحباً بكم بالدوحة ويسرُّني أنْ أشاركَكم هذا الاجتماع بمناسبةِ اليومِ العالمي لحمايةِ التعليم من الهجَماتِ والذي نتخّذُ من "التكلفةِ الإنسانيةِ للحرب" عنواناً له هذا العام.

 

وعندما أتحدثُ عن الهجومِ على التعليم لا أقصدُ، بطيبعةِ الحال، المعنى المجرّدَ للتعليم وإنمّا دِلالتَهُ الشاملة. 

التعليمُ يعني صفوفاً تكتظُّ بأطفالٍ أبرياء يحلمونَ، ويحلمُ أهاليهم، بمستقبلٍ يريدونَ من مركبِ التعليمِ أن يحملَهم إليه، التعليمُ يعني أيضاً معلِّمينَ يسخِّرونَ عِلمَهم ويبذلونَ قُصارى جهودِهم من أجلِ تأهيلٍ هؤلاء الأطفالِ لتحقيقِ أحلامِهم وأحلام أهاليهم.

وبالمقابل لا يعني الهجومُ على التعليمِ سوى الانقضاضِ الهمجي على حياةِ التلاميذِ ومعلّميهم، حتى لا يتبقّى سوى الدمارِ والفراغِ والظلامِ مخيِّماً بعباءتِهِ القاتمةِ على أحلامٍ بُعثِرتْ وآمالٍ خُيـِّبتْ.

 

ولا شكَّ أنّ مَن يستهدفونَ التعليمَ يُدرِكونَ ما يفعلون ويقصدونَهُ مع سبقِ الإصرار.

 

السيدات والسادة..

لا بدءَ أكثـرُ إلحاحاً وواقعيةً وأخلاقيةً من الاستهلالِ بغزّة التي تتعرّضُ لقصفٍ وحشيٍّ يمثّـِلُ إمعاناً في الإبادةِ الجماعيةِ بمجازرَ يوميةٍ متكرّرة كانَ من فظائعِها المجزرةُ التي قُتِلَ فيها أكثرُ من مائةِ نازحٍ فلسطيني كانوا يحتمونَ بمدرسةِ التابعين بمنطقةِ حي الدرج.

ولو أقدمتْ أيّةُ دولةٍ في آسيا أو أفريقيا على ارتكابِ هذه المجزرة لسارعَ المجتمعُ الدولي، بلا تردّد، إلى حصارِها ومعاقبتِها.

 

ومنذُ السابعِ من أكتوبر من العامِ الماضي سُجِّلَ استشهادُ أكثرَ من 10000 طالبٍ في غزة، وما لا يقلُّ عن 400 مدرس، وتدميرُ 93% من المدارسِ التي كانَ معظمُها بمثابة بمثابةِ سكنٍ في حالاتِ الطوارئ ويحتمي بها النازحون الذينَ أصبحوا بلا مأوى بسببِ الحرب.

وفي هذا السياق، نتذكّرُ أنّ تسعةَ عشرَ خبيراً ومقرِّراً أممياً مستقلاً حذّرَوا ببلاغةٍ، في أبريلِ الماضي، من "إبادةٍ تعليميةٍ متعمَّدة" في قطاعِ غزة.

كما أرى من المهمِّ أيضاً أن نستعيدَ ما صرّحتْ بهِ المقررةُ الخاصّةُ للأممِ المتحدةِ المعنيّةُ بحقوقِ الإنسان في الأراضي الفلسطينيةِ فرانشيسكا ألبانيز مؤخراً بقولِها :(وهنا أقتبس) إنَّ إسرائيلَ ترتكبُ إبادةً جماعيةً بحقِّ الفلسطينيين في مدرسةٍ تِـلوَ أخرى في قطاعِ غزة، وإنّ "فشلَ المجتمعِ الدولي في وقفِ جرائمِ إسرائيل مكّنَها من ارتكابِ هذهِ الإبادةِ الجماعية"، وإنّ المجتمعَ الدولي لا يمكنُ أنْ يستمرَ في تجاهلِ "مشروعِ إسرائيل في تطهيرِ فلسطين من الشعبِ الفلسطيني". (انتهى الاقتباس)

هذا ما شَهِدَتْ به ممثلةُ الأممِ المتحدة في اختصاصِها ومِن موقعِها.

الحضور الكريم..

لقد انقضى عامٌ وحلَّ آخر، ولا تزالُ الأدراجُ في الصفوفِ تنتظرُ طلبتَها، دونَ أن تعلمَ مَن سيعودُ إليها ومَن لا يعود، فمِنهم مَن قضى نحْبَهُ استشهاداً ومِنهم مَن على فراشِ المرضِ مبتور الساعدين أو القدمين ومِنهم مَن ينتظرُ قدرَهُ المجهولُ الذي يحاصرُهُ الموتُ من كلِّ جانبٍ ويتضاءلُ فيهِ الأملُ بالسلامِ والحريةِ والعدالة.

 

لقد خذلناكم يا أطفالَ غزة، فلم يحمِكم قانونٌ دولي ولا شرعيةٌ أممية ولا اتفاقياتٌ دولية.

فماذا بعد؟ هل وصلنا إلى هذهِ الحال؟ وأيّةُ حال؟ هل استسلَمنا إلى الحدِّ الذي جعلَنا نشاهدُ مدناً بأكملِها تُدَمَّرُ

وسكّاناً يُستَهدفونَ بالرصاص ويُحرَمونَ من العلاجِ الطبي ويُعَذَّبونَ ويُجوَّعونَ، دونَ أنْ تكونَ لنا ردّةُ فعلٍ تناسبُ ما يحدث؟ هل وصلتْ بنا الحالُ أنْ نتركَ الأطفالَ ووحيدينَ خائفينَ أسرى لشبحِ الموتِ في المستشفياتِ لم يبقَ فيها لا دواءٌ ولا مداوٍ؟ هل وصلتْ بنا الحال بحيثُ نسمحُ للمدارسِ المليئةِ باللاجئين اليائسين أن تُستَهدَف عَمْداً بالقصفِ الجوّي وإطلاقِ النار؟

 

السيدات والسادة،

إنَّ الهجماتِ على التعليم تتواصلُ دونَ انقطاع، حيثُ تتضرّرُ المدارسُ من الحروبِ ويتشرّدُ ملايينُ الطلبة،

كما يحصلُ في السودان وأوكرانيا، ويدفعُ الطلبةُ الأبرياءُ في نيجيريا والكونغو الديمقراطية وكولومبيا وغيرِها

ثمناً باهظاً للإنقساماتِ المريرة.

 

لقد فَشِلنا كمجتمعٍ دولي في حمايةِ التعليمِ وفشِلنا في حمايةِ الطلبة.

وليس بيننا مَن لا يعرِفُ السياساتِ التي يُدارُ بها العالم والآلياتِ التي تُنفَّـذُ بها هذه السياسات، ولكلِّ ما نشهدُهُ نجدُ دائماً تفسيراً ما، ولكنّ ما لا نجدُ لهُ تفسيراً أنْ يسمحَ المجتمعُ الدولي للمعتدينَ على التعليمِ بتنفيذِ هجماتِهم وأن يفلتوا من العقاب دونَ أن يردعَهم ردعاً حاسماً كما يفعلُ في حالاتٍ أخرى!

 

وسوى ذلك، هناك تكاليفٌ ماديّةٌ بالمليارات تتطلبُها إعادةُ إعمارِ البِنى التحتية بما في ذلك المدارس والجامعات

في غزة واليمن وسوريا وأوكرانيا وميانمار وغيرها، الأمر الذي يُوجِبُ توحيدَ المواقفِ والرؤى في أنّ الدولَ التي ترتكبُ التدميرَ تتحمّلُ المسؤوليةَ القانونيةَ الكاملةَ لإعادةِ إعمارِ ما خلَّـفَهُ تدميرُها بمنظومةِ التعليم.

 

في ظلِّ كلِّ هذهِ الأحوالِ التي تُصَدِّرُ اليأس، يبقى الأملُ الوحيدُ مرهوناً بالشباب، فهؤلاءِ الطلبةُ الذين يواصلونَ الاحتجاجَ ضدَّ الحربِ والمعاناة في جميعِ أنحاءِ العالم يَرمِزونَ إلى الفِطرةِ السليمة لإنسانيتِنا قبلَ أن تُشوَّهَ بأجنداتِ المصالح والبرغماتية السياسية.

 

وهكذا... مع تزايدِ تحدياتِ تغيّـرِ المناخِ والأمراضِ والحروبِ التي يواجهُها هذا العالمُ الهش، يجب الاستفادة من موهبةِ وقدرةِ كلِّ طفلٍ وشابٍ لإطلاقِ إمكانياتِهم، ومواصلةِ تعليمِهم، وتأهيلِهم للتدريسِ والقيادةِ والدفاعِ عن حقِّ الأطفالِ والشبابِ بالسلامِ والتعليم.

 

وقبلَ كلِّ شيء: إننا بحاجةٍ إليهم أحياءً.

 

الحضور الكريم..

إنَّ "التكلفةَ الإنسانيةَ" للحربِ على غزة لا يقبلُها ذو ضميرٍ وأخلاقٍ ومبادئٍ إنسانية وإنّني واحدةٌ من الذينَ ينتابُهم الغضبُ حِيالَ ما يُرتكَبُ من جرائم بحقِّ الفلسطينيين وبحقِّ القانونِ الدولي.

غاضبةٌ من حجمِ وعددِ الجرائم التي تُرتكَبُ في غزة، غاضبةٌ من فَرْطِ الصمتِ الفاضحِ لإنسانيتِنا التي هربتْ من واقعِ الفجيعة وانخرطتْ في ما يتعارضُ مع نُبلِ مبادئها،

غاضبةٌ من مجتمعٍ دوليِّ يدّعي إنّهُ متحّضِرٌ فإذا بغزةِ تطيحُ بادعائهِ وتعلنُ عن احتضارِهِ، غاضبةٌ من زعماءِ دولٍ انتفضوا غضباً لحربٍ وصمتوا طويلاً عن أخرى،  غاضبةٌ من زعماءِ دولٍ يتحدثونَ كثيراً عن حقوقِ الإنسانِ وولايةِ القانونِ الدولي ويسكتونَ عمّا يجري في غزة من إبادةٍ جماعية، غاضبةٌ من زعماءَ كثيراً ما سمِعناهم يقولونَ إنّ فلسطينَ قضيتُهم المركزية ولا نرى شيئاً من هذهِ المركزيةِ في مواقفِهم.غاضبةٌ لهند ومَن رحلَ قبلَها وبعدَها ،غاضبةٌ والغاضبونَ كُثـرُ وغَضَبُ الربِّ ليسَ ببعيد، ومَن يَحْلِـلُ عليهِ غضبُ الربِّ فقد هوى.

 

إنَّ ما يحدثُ في غزّةَ أماطَ اللثامَ عن وحشيةِ عالمٍ زعمَ أنّهُ متحضرٌ وظنَناه كذلك وخابَ ظنُّنا.

ولا أقصدُ هنا مَن يرتكبونَ الجرائمَ ويقتلونَ الأطفالَ والنساءَ فحَسْبْ، بل كلَّ مَن دَعمَ هذا العدوانَ الغاشمَ بالمالِ والعتادِ ومَنْ اختارَ الصمتَ أو التفرّجَ على ما يجري في غزة، ومَن شجّعَ على العدوان بشكلٍ سافرٍ أو مُستَـتِـر.

 

وبعدَ سقوطِ أقنعةِ البعض وغيابِ المرجعياتِ القِـيَميّةِ والثقافيّة لم تتبّقَ لنا سوى مرجعيةِ غزّة: نساءً وأطفالاً يذكِّروننا بأنَّ اللهَ حقٌّ والدينَ حقٌّ والوطنَ حقٌّ، وإنَّ إنساناً بلا كرامة لا يستحقُّ الحياة.