مؤتمر القمة العالمي للإبتكار في التعليم "وايز" 2017

الدوحة, 15 نوفمبر 2017

 

السلام عليكم..

الحضور الكريم..

أرحبُّ بكم بالدوحةِ حيثُ يجمعُنا وايز، اليومَ كما في الأمسِ، باعتبارِهِ مِنَصّةً عالميةً لصناعةِ الأفكارِ وابتكارِ الحلولِ وتداولِ مختلفِ المستجدّاتِ في واقعِ التعليم. وإنَّهُ لمِن بالغِ سروري أنْ أشاركَكم، من على هذا المِنبَر، مقاربةَ موضوعٍ لا ينفصلُ في جوهرِهِ عن التحدياتِ التعليمية.

السيدات والسادة..

ثَـمّةُ إجماعٌ فكريٌّ في العالم، أنتم جزءٌ منهُ، على أنَّ التعليمَ هو خِزانةُ الحلولِ. وجُلَّ ما أخشاهُ أن تكونَ هذه الخِزانةُ قد أُفلستْ وأن رأسمالَ الحلولِ لم يعد قادراً على مواجهةِ التحدياتِ الكونيّةِ إذا لم نسارعْ إلى معالجةِ الخلل. وكما تعلمون، تُعِـيدُنا قضايا التعليمِ دائماً إلى اختبارِ كلِّ ما حولَنا من ظواهرَ وتغيّراتٍ بما في ذلك اختبارُ التعليمِ نفسِهِ عندَ الضرورة.

فالتعليمُ الذي يصنعُ التقدّمَ يواجهُ، آجلاً أو عاجلاً، تحدياتِ ما صنعَ على مستوياتٍ مختلفةٍ: سياسيةٍ وإعلاميةٍ وثقافيةٍ وتكنولوجية، وقد بلَغتِ التحدياتُ أشُـدَّها عندما بالغَ الخطابُ السياسي في مراواغاتهِ وتماديهِ اللغوي وما يصدّرُهُ الخطابُ الإعلامي من رؤيةٍ للأحداثِ بالنيابةِ عنا، وما نتجَ عن ثورةِ الانترنت من خلْقِ عالمٍ افتراضيٍّ يتعاملُ مع الواقعِ بعلاقةٍ انتقائيةٍ تديمُ افتراضيّـتَهُ وتعرِّضُ فكرةَ الحقيقةِ للمساءلة.

فما يجري تسويقُهُ في بعض الإعلامِ من أوهامٍ مُنَـمَّطةٍ في هيئةِ قصصٍ واقعية وما يقدّمُهُ من صورٍ شبيهةٍ بالحقيقةِ وليستِ الحقيقة أدّى إلى الإطاحةِ بمعاييرِ الخطابِ الإعلامي.

 كذلك ما تزدحمُ به وسائلُ التواصلِ الاجتماعي من نشاطاتٍ منظَّمةٍ لترويجِ دعاياتٍ وإشاعاتٍ وأكاذيبَ يُرادُ منها حَـرْفُ انتباهِ الناسِ عن معاينةِ الواقعِ أو ملامسةِ الحقيقة ومن ثم توجيهُهم نحو التعاطي مع ما يُرادُ له أن يكونَ واقعاً وحقيقة. إنّهُ التلاعبُ بالعقولِ الذي تحدّثَ عنهُ هربرت شيلر في مطلعِ سبعينياتِ القرنِ العشرين.

وبهكذا مُدخلاتٍ ستكونُ المخرجاتُ حتماً حقائقَ مزيّفةً اُختلِقتْ لتكونَ حقائقَ بديلةً لنتقبّلَها في ما يُسمّى "عالمُ ما بعد الحقيقة"، وفي هذا السياق سنشهد معاً بعدَ قليل ندوةً تتناولُ "التعليمَ في عالمِ ما بعد الحقيقة"، وهو عالمٌ "لا يتأثّـرُ فيهِ الرأيُ العام بالأحداثِ الموضوعية بمقدارِ ما يتأثّـرُ بالخطاباتِ القائمةِ على الانفعالِ والعاطفةِ والتقييماتِ الشخصية"، إذْ يُعادُ إنتاجُ الحقيقةِ لتأخذ شكلاً آخرَ مغايراً يناسبُ مَن يريدونَ إعادةَ تشكيلِ العالم وفقاً لمصالحِهم ليقومَ على الأخبارِ الزائفةِ والصورِ الزائفةِ والحقائقِ الزائفةِ وغطرسةِ الإدعّاءِ بتمثيلِ الحقيقة.

بأدواتِ التضليل هذه تمَّ حصارُ العراقِ لثلاثةِ عشرَ عاماً واختلاقُ الذرائعِ لغزوهِ عام ألفين وثلاثة وسُمِّيَ الغزوُ، ويا للغرابةِ، تحريراً! وبدلاً من العثورِ على أسلحةِ الدمارِ الشاملِ المزعومةِ تعرّضَ العراقُ لتدميرٍ شامل. فالعراقُ الذي كان يُشارُ إلى نظامِهِ التعليمي في عامِ ألفٍ وتسعَمئةٍ وتسعين بأنّهُ من أفضلِ أنظمةِ التعليمِ في المنطقة وكان على وَشَكِ القضاءِ الكلّي على الأميّة تراجعتْ به الحروبُ والحصارُ إلى ما آلتْ إليهِ الأوضاعُ من أحوالٍ مؤسفة.

وبالأدواتِ نفسِها يُحاصَرُ اليمنُ اليومَ لكي لا ينهضَ ولا يستقرَّولكي يُغرَقَ في مثلثِ المرضِ والفقرِ والأمية.

وبالأدواتِ نفسِها تُحاصَر قطر منذُ الخامسِ من يونيو الماضيفي وقتٍ أرادَهُ البعضُ أن يكونَ صعباً علينا وما كانتْ صعوبتُهُ إلّا عليهم.. وقد أرادوا أن نتغيّرَ ونغيّرَ نهجَـنا وما تغيّرنا وما غيَّرنا.

إنَّ عالماً مزدَحِماً بالأخبارِ الزائفة لا يمنعُنا، نحنُ المدافعينَ عن التعليم، مِن أنْ نصطفَّ إلى الجبهةِ التي تقفُ فيها الحقيقةُ مع إيمانِنا بأنّ الفكرَ القِيَمي للتعليم يكرّسُ احترامَ الحقائقِ ويرجّحُ الحقيقةَ على النزعةِ الشخصية في السياقاتِ التربوية.

ولكي نجعلَ التعليمَ متماسكاً وحقيقياً وقوياً في مواجهتِهِ لآليات التلاعبِ بالعقول يتعيّنُ علينا الدفعُ باتجاهِ إصلاحاتٍ شاملةٍ للمنظومةِ التعليمية تشملُ المناهجَ وطرائقَ التدريس بما يضمنُ البناءَ الذهنيَّ المتوازنَ للطلبة وتنميةَ العقلِ النقديِّ لديهم لمقاربةِ ومساءلةِ مختلف القضايا بعيداً عن تنميطِ التفكير، مع ضرورةِ تسليحِ الطلبةِ بمَناعةٍ ثقافيةٍ وإعلاميةٍ عَبْرَ تربيةٍ إعلاميةٍ ومعرفيةٍ مُمَنهَجة تؤهّلُهم للتعاطي النقديِّ مع الخطابِ الإعلامي والقدرةِ على فحصِ الخطابِ السياسي وامتلاكِ النظرةِ الثاقبةِ للفرزِ بين الغَثِّ والسَمينِ في محتوى الانترنت.

وبذلك فقط نحصّنُ الأجيالَ ضد مخاطرِ التلاعبِ بعقولِهم وقلوبِهم من قبلِ جهات وأشخاص مجهولينَ ومعلومِينَ يعبثون بفضاءٍ سبرانيٍّ بلا حدود.. وفي النهاية ننقذُ العالمَ من الانزلاقِ الكلّي إلى متاهةِ ما بعد الحقيقة.

ولسنا كعرب بصددِ تبرئةِ أنفسِنا عندما تحوّلنا من صانعي حضارة ومنتجينَ للعلمِ والفلسفةِ والفكرِ قبلَ أكثرِ من ألفِ عام إلى مستهلِكينَ لما ينتِجُهُ الآخرونَ. وقد تخلَّينا عن دورِنا في الإبداعِ الإنساني بشكلٍ مؤثرٍ وتخّلَفنا عن الإسهامِ في الحداثةِ واكتفينا بمحاولاتِ تحديثٍ لا تصنعُ مستقبلاً.

السيدات والسادة..

ونحنُ نستلهمُ من موضوعةِ وايز لهذا العام فكرةَ التعايشِ التي تطرحُ في جوهرِها حلاً لتحدياتٍ مختلفة، من أبرزِها قضايا الأمنِ والسلامِ والاستقرارِ والتنمية، فلنعدْ إلى التعليمِ لتكريسِ هذه الحقيقة.

أتمنى لكم التوفيقَ في أعمالِ مؤتمرِكم

وشكراً لإصغائكم.