حدث "تمكين الشباب، النهوض بالمجتمعات" الرفيع المستوى لمؤسسة صلتك

جنيف، سويسرا, 04 مارس 2019

 

عبدي سهل دوالي، شابٌّ نشأ مُحاطاً بالعنف والصراع والجوع، ولم يُخَيَّلُ إليه يوماً أن تنتهي دوامة الفقر والإحباط التي عاشها كامل حياته في وطنه الصومال. لقد حلم بالهرب إلى أوروبا بحثا عن مستقبل أفضل.

وشأنه شأن شبابٍ كُثُر لا أمل لهم، فرَّ من بلاده، فاتخذ سبيله في رحلة طويلة وخطرة؛ استغرقت أياماً بالسيارة ومشياً على الأقدام من وطنه مروراً بإثيوبيا فالسودان للوصول إلى ليبيا بأمل إيجاد سبيل إلى أوروبا. وبعد مسير أسبوعين في ظروف قاسية وسط الصحراء، تمكن أخيراً من اجتياز الحدود الليبية، وهناك قاسى الصعاب وويلات الصراع والعنف، وكافح من أجل جمع المالي الكافي لتأمين مكانٍ له على متن قارَبٍ للتهريب إلى أوروبا، لكنه سُجن لأكثر من عام لمكوثه مدة أطول مما يسمح قانون البلاد.

وتمكن بعد إطلاق سراحه، بمساعدة أصدقائه، من جمع المال لرحلته، فركب قارباً متجهاً إلى أوروبا، سيحمله نحو الحرية.. لكنه بدلاً من ذلك عانى معضلة أخرى عندما تعطّلت محركات القارب فبدأ بالغرق.

لقد شاهد عاجزاً حاله حال كثيرٍ من صَحبهِ، وجسده يطفو فوق مياه البحر لاثنتي عشرة ساعة، جميع أولئك الذين استبدَّت بهم الأحلام واليأس، وهم يموتون في المياه الباردة، قبل أن تُكتبَ له النجاة.

قضى عبدي ثلاث سنوات في ليبيا في دوامة من المحاولات الفاشلة، لم يتحمَّل خلالها مأساة الأصدقاء الذين فقدهم، فعاد إلى الصومال في نهاية المطاف، مُحطم الفؤاد وقد تهشمت أحلامه حول المستقبل في أوروبا، لِيركنَ إلى حياة مجردة من الأمل.

وهناك تتخذ قصة عبدي مساراً آخر مختلفاً عن كثير من الشباب في منطقتنا، فالعيش في الصومال مرة أخرى جعل حياته يائسة، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي أخبره فيه أصدقاءٌ له أن مؤسسة تُدعى "صلتك" قد تساعده في الحصول على عمل أو تأسيس مشروعه الخاص، ثم قرر اغتنام تلك الفرصة الأخيرة فلم يتبقَّ ثمة شيء يخسره.

عندها قدم طلبه فحصل على قرض لتأسيس مشروعه الخاص، عبارة عن مقهى في مدينته. وكان ذلك المشروع هو المستقبل بالنسبة إليه، وهو الذي وفّر لأسرته حياة جديدة وكريمة، وأتاح لعبدي تشغيل ثلاثة عمال من الشباب الصومالي، الذين ساعدوا بدورهم عائلاتهم وأسهموا في حركة المجتمع بِرُمَّتِه.

وعن ذلك قال عبدي: "أملك الآن مشروعاً ناجحاً غيَّر حياتي، فقد أصبحت عضواً نشيطاً في مجتمعي، الآن لدي الأمل".

في اللغة العربية كلمة "صلتك" تعني "وصل الشخص بالشيء"، لكنها تعني لملايين الشباب في العالم العربي شيئا أكثر من ذلك بكثير، إنها بالنسبة إليهم "الأمل" في وظيفة كريمة، ودخلٍ ثابت، ومستقبل أفضل.

دُعيتُ عام 2005 من قبل سعادة السيد كوفي عنان للانضمام إلى مجموعة رفيعة المستوى خاصة بتقصي جذور الإرهاب، وكانت ذاكرة العالم آنذاك مفجوعة بأهوال الحادي عشر من سبتمبر.

 كانت البطالة مرتفعة جداً ومستمرة في الارتفاع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولم يكن لدى كثير من الشباب آفاقٌ لمستقبل أفضل، وتملّكني قلقٌ عميق من أنّ البطالة تدفع بالشباب العربي إلى أحضان الراديكالية.

وسرعان ما أدركنا بأن نطاق المشكلات في العالم العربي كان أوسع مما فكّرنا فيه، فقد كانت فئة الشباب والشابات تزداد بوتيرة أسرع من أعداد الوظائف المتوفرة لهم في سوق العمل.

وأفادت إحصاءات منظمة العمل الدولية بأن نحو 13% من شباب العالم عاطلون عن العمل، وقد بلغَ هذا الرقم 30% في العالم العربي، ما يعني أن قرابة ثلث الشباب العربي، أي عشرة ملايين شاب عربي، بدون وظائف.

ومن دون عمل هادف لن يكون لشبابنا ذكوراً وإناثاً أملٌ في المستقبل، وسيُتركون عرضة للراديكالية والعنف والتطرف السياسي.

كما أثبت لنا التاريخ الحديث فإن لليأس عواقب. ففي العام 2011 خرج الشباب العربي المحبط إلى الشوارع، ومعظمهم بدون وظائف ولا آفاق ولا أمل لهم، إبان مظاهرات "الربيع العربي" التي أطاحت بحكومات وزعزعتْ استقرار أخرى.

وبعد أعوام قليلة من ذلك، اجتاز شواطئ أوروبا عشرات الآلاف من الشباب والشابات، من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، عاطلين وجائعين ومُحبطين، مُعلنين عن أكبر أزمة هجرة عالمية في الأزمنة الحديثة.

أمَّا وقد كان لليأس عواقب، فإن للأمل أيضاً نتائجه.

ففي العام 2008 بدأت صلتك كمبادرة عالمية ينصبُّ تركيزها الرئيسي على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتمكين شبابنا.

وسرعان ما حظينا بدعم وكالات الأمم المتحدة والحكومات والمنظمات غير الحكومية والشركات والبنوك والأفراد، بما فيهم ثُلّةٌ من المتواجدين معنا هنا اليوم.

وقد انتهجت صلتك أسلوباً خلاقاً ومبتكراً عند التعامل مع المشكلات التي تواجهها هذه المجتمعات، إذ سعينا لخلق برامج مستدامة ذات تأثير تحويلي على مسببات تلك المشكلات من الجذور، وليس فقط معالجة أعراضها.

في البدء قمنا بدراسة المجتمع والاقتصاد المحلي لتحديد العمل والتدريب الملائمين.

ولمَّا استوعبنا ذلك عمدنا إلى ربط البنوك مع شركاء عالميين آخرين لتقديم فرص التمويل الصغير للشباب الذين يحتاجون قروضا صغيرة بغية تأسيس مشاريعهم الخاصة.

ولكن مشروع المقهى غاية بعض الشباب كما كان الأمر بالنسبة لعبدي، ولا أن يؤسسوا مشاريعهم الخاصة، بل كانوا في حاجة للتدريب ليدخلوا غمار المنافسة على الوظائف الموجودة في مجتمعاتهم.  

وفي الأعوام العشرة المنصرمة عملت صلتك بالتعاون مع أكثر من 300 شريك على الوصول إلى أكثر من مليون شابٍّ في سبعة بلدان بالوظائف والمهن والمشاريع الجديدة.

إنما يا أصدقائي لطالما تخطى عمل صلتك مجرد إيجاد وظائف أو خلق فرص أعمال، فجزء كبير من جهودنا له أثرٌ واسع النطاق على المجتمعات حيث نعمل. كما أننا آمنَّا وبقوة بأهمية المشاركة المدنية والتمكين الاجتماعي للشباب، باعتبارهم قوة دفع للتنمية الوطنية والمجتمعية.

ولنا في تونس مثالٌ على ذلك، فقد أقمنا شراكة مع صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية، ومؤسسة تمكين للتنمية، ومؤسسة زيتونة للتمكين، بهدف تمكين الشباب لبناء الثقة والالتزام بالمشاركة في العملية الديمقراطية.

وفي جبهة أخرى، كان برنامجنا "الأمل" في السودان يعمل على إعادة تأهيل وإدماج الشباب الذين عانوا سابقاً من التطرف، من خلال تدريبهم في مجال ريادة الأعمال ومساعدتهم على تأسيس مشاريعهم الخاصة، فبدلا من التخلي عنهم، منحناهم فرصة ثانية لتحويل مسارات حياتهم كي يسهموا في إعادة بناء مجتمعاتهم.

فالشباب والشابات بحاجة للوظائف وفرص الأعمال الحرة من أجل تطوير أنفسهم ومجتمعاتهم، وهم بحاجة أيضا لفرصة كسب معيشة تسمح لهم بدعم أسرهم والإسهام في تقدّم مجتمعاتهم وبناء مستقبل أفضل.

وهذا هو الأمل الذي تعطيه مبادرة صلتك.

وبالإضافة إلى مليون شاب وفّرنا لهم الوظائف سابقاً، يُسعدني اليوم أن أعلن بأننا ملتزمون بتوفير الفرصة نفسها لمليونين آخرَين من الشباب والشابات بحلول العام 2022، ليكون العدد الإجمالي ثلاثة ملايين وظيفة وأعمال حرة هادفة بفضل مبادرة صلتك وشركائها.

ولكن ينبغي علينا بذل المزيد..

ولذلك أقترح وضع غاية جديدة لرفع السقف إلى خمسة ملايين بحلول 2022.

فالأمر أكثر من مجرد خمسة ملايين شخص، بل يتعداه ليشمل عائلاتهم وعُمَّالهم الجدد وأُسرهم التي سيطال حياتها التغيير.

وإنني اليوم لأدعو القادة الذين يسعون لاستقرار مجتمعاتهم.. والمؤسسات المالية التي تمتلك التمويل للاستثمار في شبابنا.. والناشطين في مجال حقوق الإنسان الذين يَنشدون المساواة للجميع.. والحكومات التي تَعي العواقب الوخيمة لأزمة الهجرة.. أن نعمل معاً نحو هذا الهدف السامي..

ومعاً سنغير النموذج..من السلبي إلى الإيجابي، ومن الخسارة إلى الربح، ومن الإقصاء إلى التمكين، ومن الخُذلان إلى التقدير، والأهم: من اليأس إلى الأمل.