افتتاح مؤتمر الدوحة الدولي حول الأسرة

الدوحة, 16 أبريل 2014

السلام عليكم..

السيدات والسادة..

عَـوْداً على ما التزمنا بهِ في مؤتمرٍ مماثلٍ انعقدَ بالدوحة عام 2004 في الذكرى العاشرة للاحتفالِ بالسنةِ الدولية للأسرة، نرحّبُ بكم ونحيّي مواصلةَ ما دأبتم عليه من بحثٍ في قضايا الأسرة في هذا المؤتمر. وإنّي لأرى فيها مناسبةً للقيامِ بمراجعةٍ شجاعةٍ لما تمَّ إنجازُهُ طوالَ عقدين على مستوى التشريعاتِ والسياساتِ والتطبيقاتِ ومستوى التغيراتِ في الواقع. 

تعلمون أنَّ الأمم المتحدة اختصرتْ همومَ البشريةِ جمعاء وأوجزتْ مفرداتِ الحاجةِ الشاملةِ للتمكينِ في الأهدافِ الإنمائيةِ للألفية التي تمحورتْ جميعَها فعلياً حولَ قضايا تمكينِ الأسرة، من تعليمٍ وصحةٍ وعملٍ ومساواة. ولكنَّ ما يؤلمُنا أنّ استعراضَ النوايا الطيبةِ والإيقاعَ العالي للغةِ الخطابِ الإنساني التي سمعناها كثيراً في العالم، لا نجدُ لها تجسيداً بالأفعالِ على أرضِ الواقع بل ظلّتْ أقوالاً كرّسوها بمزيدٍ من الأقوال أو بقليلٍ من الأفعالِ. ولا أدلَّ على ذلك من الدعمِ الشحيحِ الذي قدّمتْهُ الدولُ لصندوقِ الأممِ المتحدةِ الائتماني للأسرة. وأظنُّكم استمعتمْ إلى أصواتٍ رصينةٍ في العالم نبّهتْ إلى أنّ التفكّكَ الأسريَ ذو كلفةٍ اقتصاديةٍ عالية، الأمر الذي يستدعي تدخّلَ الدولِ لدعمِ الأسرِ وتعزيزِ الروابطِ الأسرية، في الأقل من بابِ حساباتِ الربحِ والخسارة.

إننا نعتقدُ أنَّ البشريةَ أحوجُ ما تكونُ في الوقتِ الحالي إلى سياساتٍ وبرامجَ عالميةٍ ووطنيةٍ شاملة، تتوجّهُ إلى قضايا الأسرةِ كمنظومةٍ اجتماعيةٍ متكاملةٍ ولا تجزّئُ الحلول. ونرى إن قضايا الرجلِ والمرأةِ والشبابِ والطفلِ هي في حقيقتِها قضيةٌ واحدةٌ: قضيةُ الأسرةِ بمختلفِ تحدياتِها ومشاكلِها.. تتطلّبُ تمكينَ جميعِ أفرادِ الأسرة من أدوارِهم. وتمكينُ الأسرةِ بهذا المعنى هو تهيئةُ الظروفِ للنهوضِ بالأدوار.. في أسرةٍ متماسكةٍ تصونُ وتتوارثُ قيمَ التماسك. ولكنّ الدورَ الأكبرَ يقعُ على عاتقِ الدولةِ من خلالِ سياساتٍ وبرامجَ تعمل على توفيرِ التعليمِ والرعايةِ الصحيةِ ومعالجةِ أسبابِ الفقرِ ودعمِ التوازنِ بين الحياةِ والعملِ وإعلاءِ قيمِ التضامنِ والتواصلِ بين الأجيال. ولأنَّ لكلِّ مجتمعٍ خصوصيةً اجتماعيةً وثقافية، كما أنّ لدى جميعِ بلدانِ العالمِ تحديّاتِها الخاصةَ في مجالِ قضايا الأسرة، فإنَّ تطبيقَ السياساتِ والاستراتيجيات يقتضي كذلك خصوصيةً في آلياتِ التنفيذ تراعي التمايزاتِ القيَميةَ بين البلدان.

السيدات والسادة..

من هذا السياق.. أريدُ أن أعرّجَ على قضايا الأسرةِ العربيةِ والمجتمعاتِ العربية التي تمرُّ بمرحلةٍ تاريخيةٍ حسّاسة تتهدّدُ فيها هويتُها وثقافتُها ومستقبلُها. وانطلاقاً من بداهةِ الإيمانِ بأنّ الأسرةَ هي نواةُ المجتمع ووحدتُهُ المصغّرة وهي الحاضنةُ التربويةُ للأجيال، إذا صَلُحَت صَلُح المجتمع.. وإذا تفكّكَتْ تفكّكْ.. لنا كعربٍ ومسلمين تراثٌ دينيٌ وثقافيٌ واجتماعيٌ يقدّسُ العلاقةَ بين الآباءِ والأبناء.. ويكرّمُ القيمَ الحميدةَ التي تكرّسُ الترابطَ والتكافلَ والتراحمَ بين أفرادِ الأسرة.

وعَبْـرَ الأزمان، احتكمتْ الأسرةُ العربيةُ إلى قيمٍ مرجعيةٍ رسّختْ من تماسكِها وعزّزتْ التوارثَ التربويَّ بين الأجيال. وإلى زمنٍ قريب، ظلّتْ مرجعياتٌ مختلفةٌ تنظِمُ حياةَ المجتمعاتِ العربيةِ وتضبطُ سلوكَ الأفراد، ومنها السلطةُ الأخلاقية للدين، وسلطةُ الأسرة، وسلطةُ المنظومةِ القِيَميّةِ للمجتمع، وسلطةُ القانونِ في سياقِها العادل. 

بَيْدَ أنَّ الغزوَ الثقافيَّ الذي اجتاحَ العالمَ كلَّهُ بطوفانِ العولمةِ في العقدينِ الأخيرين، عصفَ بالإنسانِ العربي وأحدثَ خلخلةً في منظومةِ القيمِ وانحساراً في الخصوصيةِ الثقافية وتصدّعاً في الهويةِ وما ترتّبَ على ذلك من تراجعٍ قيَميٍّ في الثوابتِ وميوعةٍ في استشعارِ ومواجهةِ التحديات. ولسنا لندعوَ إلى هويّة نكوصيةٍ ولكننا نريدُ انفتاحاً على الآخر بهويّتِنا وليس بهويتهم.

لقد استهدفتْ محمولاتُ الغزوِ الثقافي صميمَ هويةِ الأسرةِ العربية: ثقافتَها ولغتَها ودينَها. وأدّتْ وسائلُ الإعلامِ والثقافةُ الترفيهيةُ، ولا تزال، الدورَ الأكثرَ تأثيراً باعتبارها حاملاً لمفرداتِ وتأثيراتِ هذا الغزو الذي جرفَ بتيارهِ الكثيرَ من الشبابِ العرب. وإننا لنتألّمَ كثيراً ونحنُ نرى شباباً عرباً يفقدونَ هِويّتَهم، وتتجلّى حالاتُهم بمثابةِ جرسِ إنذارِ من أنْ يَطْغى ضياعُ الهويةِ على أجيالٍ مقبلةٍ بكاملِها، بينما تنشغلُ دولُنا العربية، عن واجباتِها في مضمارِ البناءِ والتنميةِ الاجتماعية، بالخلافاتِ السياسيةِ البينية أو بالاحترابِ الداخلي. وكما لا يحدثُ ربما في أيِّ منطقةٍ أخرى في العالم تُستنزفُ ميزانياتُ الكثيرِ من الدولِ العربية بالتسلّحِ ومستلزماتِ الهاجسِ الأمني ومتطلباتِ الإعلامِ الدعائي. فكيفَ لحالِ الأسرةِ أن تُصلَح، إذا كانت أحوالُ الدولةِ على غيرِ صلاح؟

إنّ لَمِنَ المُفزِع أن تموِّلَ أو تَدعمَ بعضُ الدولِ العربية مئاتِ القنواتِ الفضائية التي تشتغلُ على تسطيحِ العقلِ العربي وإشاعةِ الأميّةِ الثقافية والتلاعبِ بغرائزِ اليافعين، الأمر الذي ينذرُ برهاناتٍ خاسرةٍ على المستقبل. ولعلَّ جزءاً بسيطاً من الأموالِ الهائلةِ التي تُهدَر في تمويل هذه المشاريعِ يكفي لتنفيذِ الكثيرِ من البرامجِ التنمويةِ التي تُعنى بتمكينِ الأسرة. وما كانَ لهكذا مشاريعَ أنْ تحقّقَ مبتغاها لولا تراخي النخبِ العربيةِ أو تنصّلُها أو غيابُها عن النهوضِ بدورِها الفكري والثقافي والإعلامي في التصدّي لحيثياتِ الخراب والحفاظِ على الموررثِ العربي الأصيلِ والقيمِ الثقافيةِ الحيّة.

وإنّنا لنرى، في ما نرى، أنَّ التعاملَ الجامدَ مع الموروثِ الثقافيِّ والقِـيَمي ينمُّ عن تجاهلٍ غير واعٍ لسننِ التطوّر ويشيعُ المفاهيمَ الخاطئةَ وانعكاساتِها على القيمِ الاجتماعية والتربوية. ولكي نجعلَ لتراثِنا، بثقافتِهِ وقيمِهِ، حضوراً حيوياً في واقعِنا المعاصر، يتعيّنُ علينا إعادةُ إنتاجِ هذا التراث بغيةَ مواءمتِهِ مع روحِ العصر. ونحن بذلك لا نعني القطيعةَ مع الماضي، كما لا نقبلُ القفزَ على الحاضر، وإنما هي عمليةُ تكييفٍ ومواءمةٍ للقيمِ مع الشروطِ الثقافيةِ والاجتماعيةِ للزمنِ الذي نعاصرُهُ. 

وقبل فوات الأوان، يتحتّمُ على الجيلِ الحالي من صنّاعِ القرار في البلدانِ العربية أن يتحمّلوا مسؤولياتِهم التاريخية في دعمِ تماسكِ الأسرةِ وتمكينِها من الإسهامِ الفاعلِ في التنمية، وسنِّ تشريعاتٍ عادلةٍ لحمايةِ الشبابِ والطفلِ المرأةِ وكبارِ السن، ووضعِ برامجَ تعليميةٍ وثقافيةٍ وإعلاميةٍ شاملة لصونِ الهويةِ والحفاظِ على الخصوصيةِ الثقافيةِ في وجدانِ الشباب.. علماً بأنَّ ثَمّةَ وفرةً في المؤسساتِ المعنيةِ بهذا الشأن والمؤهلةِ لتكونَ حاضنةً لمثلِ هذه البرامجِ التي تصنعُ التغيير. ودائماً لا بدَّ من تكريسِ الإدراكِ بأنه لن يُقيّضَ لهذهِ الأمّةِ أنْ تنهضَ نحوَ مستقبلٍ يليقُ بها إذا لم تحمِ قيمَها الأسريةَ الأصيلةَ.. وإذا لم يتمتعْ شبابُها بالصلابةِ الأخلاقيةِ ضد الانحرافاتِ السلوكية وبالمناعةِ الثقافيةِ ضدَّ إغواءاتِ منتجاتِ الغزوِ الثقافي وإعلامِ تسطيحِ العقول.

السيدات والسادة..

أعتقدُ أنّ الخبراءَ والباحثين في مجالِ شؤونِ الأسرة، وأنتم في مقدّمتِهم، مطالبونَ بأن يبادروا أصحابَ القرارِ بالحقائقِ والأرقامِ ومقترحاتِ الحلول، بقَـدَر ما تتطلّبُ المسؤوليةُ من أصحابِ القرار، سواءً كانوا في الدولِ أو الهيئاتِ الدولية، أن يبادروا بإرادةِ التغيير طبقاً لخلاصاتِ قراءةِ الواقع.

أشكرُ حضورَكم.. وأتمنى لكم التوفيق.

والسلام عليكم.