مقال لصاحبة السمو في صحيفة لا ريببليكا الإيطالية

ايطاليا, 04 يونيو 2016

لقد كان البحر الأبيض المتوسط حارساً للتاريخ الإنساني عبر الأزمان، شاهداً على الرحلات الأولى التي شقّت طريقها عبر مياهه، وعلى امبراطوريات العالم القديم والصراعات القومية التي شهدها القرن الماضي. فقد ولَّدَ هذا التاريخ الحافل والمعقّد روايات كثيرة، لكل منها رؤىً مختلفة. 

واليوم لم يعد البحر الأبيض المتوسط يمثل صراعاً بين القوى، وإنما أصبح نكبةً للضعفاء. فلا يوجد هناك إلاَّ تفسير واحد للجثث التي تطفو على شواطئ أوروبا، والقوارب المكدّسة بالناس وهي تعبر المياه، والعائلات التي تخاطر بالغالي والنفيس في رحلة خطيرة، ذاك هو: فشلُ المجتمع الدولي في مواجهة هذه الأزمة بإنسانية ورحمة.

إن الشعب الإيطالي يدرك جيداً عواقب هذا الفشل، ففي كل يوم تتكاثف جهود المجتمعات المحلية ووكالات المساعدات والأجهزة الحكومية في سواحل إيطاليا الجنوبية لمساعدة اللاجئين الذين هُجِّروا من ديارهم، حيث توفّر لهم مساعدات سخية تعاطفاَ مع أولئك الذين يصلون منهم وقد أنهكهم الجوع وضاقت بهم الحاجة. وفي الحقيقة فإن هناك بلداناً أخرى تشهد الوضع نفسه الذي تمر به إيطاليا، كتركيا واليونان.

عندما يُسأل اللاجئون الذين لا يملك معظمهم إلاّ حزمة من الأمتعة، حول ما الذي يرغبون فيه بشدة، يكون جوابهم المشترك: التعليم. إنهم يدركون أن التعليم هو حبل النجاة بالنسبة إليهم للنجاح في حياتهم وتحقيق الازدهار والرفاه لذويهم. فحرمان الأطفال من فرصة التعلم لا يعني اخماد تطلعاتهم فحسب، وإنما أيضاً حرماننا جميعاً من أي إسهام كانوا سيقدمونه. 

لقد نذرت حياتي لتقديم التعليم النوعي في قطر وفي كل مكان يحتاج ذلك. ومن خلال مؤسستي "التعليم فوق الجميع"، استثمرنا في تقديم التعليم الابتدائي لأكثر من سبعة ملايين طفل، ونعمل على أن يرتفع الرقم إلى 10 ملايين طفل بنهاية العام، من بينهم أكثر من مليون طفل سوري لاجئ. 

ومع ذلك فإن أكثر الأشياء إيلاماً للقلب هي أن نرى المدارس التي استغرقنا سنوات في بنائها تُدَمَّرُ في دقائق معدودات عند اندلاع النزاعات. والأنكى من ذلك أن يكون هذا التدمير ناجماً عن فعل متعمد وليس حادثاً عارضاً. وفي الحقيقة فإن ثلاثين بلداً على الأقل عانى بشكل كبير من ظاهرة الاعتداء على المدارس بين عامي 2009 و2012. فقد أصبحت مدارسنا ساحات للحرب: بدءاً من قتل 145 أستاذاً وتلميذاً في بيشاور على أيدي مسلحين، مروراً باختطاف 276 فتاة شمال نيجيريا، ووصولاً إلى حالات الاختفاء والقتل العمد التي طالت 33 طالباً في المكسيك، ثم القصف المتعمد للمدارس في غزة.

إنني أؤمن بأن هذه الأزمة هي أزمة كونية، وقد آن الأوان للرد. وعلينا أن نُخضع المسؤولين عن ارتكاب هذه الجرائم للمساءلة من خلال تفعيل نصوص القانون الدولي الخاصة بحماية المدارس. فعندما يُعاقبُ مرتكبو هذه الجرائم ويُفضَحون فإن الآخرين سيرتدعون عن الاعتداء على المدارس، بغية جعلها الملاذ الآمن المرتجى منها.

وحريٌّ بنا أن لا ننسى ما يقترفه الجناة، فهم لا يدمرون حياة ومستقبل الأطفال المتضررين فقط، بل يُلقون بالمجتمعات في أتون صراعات لا نهاية لها. وبالرغم من أن التعاطف والمواقف الإنسانية حفزتْ عزْمنا على توفير التعليم، إلا أنه يظل في جوهره نابعاً من إحساسنا بالعدالة.

إنني أعمل سواء من خلال مبادراتي أو كعضو في مجموعة الأمم المتحدة لدعم أهداف التنمية المستدامة لعام 2030، مع الآخرين لرفع الوعي بهذه القضايا. وسأناقش هذا الأسبوع مع البابا فرانسيس ورئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي نكبة اللاجئين والأهمية القصوى للتعليم وما يمكن القيام به الآن لمنع حدوث أزمات مماثلة في المستقبل. ويتعين على المجتمع الدولي استكمال هذه المساعي من خلال مساءلة الذين يعتدون على التعليم، كي لا تُسْرَقَ أحلام جيل جديد.