ندوة لاهاي "التعليم والقانون وأهداف التنمية المستدامة"

هولندا, 19 مايو 2017

 

أصحاب الجلالة، أصحاب السعادة، أعزائي المدافعين عن التنمية، الضيوف الكرام،

أسعدتم صباحاً

إنه لشعور مثالي أن يكون المرء هنا اليوم في مدينة لاهاي. المدينة التي دمّرتها الصراعات بفظاعة، وأُعيد بناؤها. وأصبحت كطائر الفينيق الذي ينبعث من رماده، رمزاً لوعود السلام والأمن والعدالة في الفترة التي أعقبت عام 1945.

وما اجتماعنا اليوم هنا إلاَّ لأن العدالة الكونية قد فقدت بصيرتها.. ولأننا قد أخلفنا ذلك الوعد.

جميعنا يعي اليوم الأزمات غير المسبوقة التي تواجه التعليم بسبب الحروب والنزوح. وها هي الأرقام تتحدث عن نفسها. ربع مجموع الأطفال في سن الدراسة في العالم يعيشون في بلدان تفتك بها الصراعات.

أما التعليم فقد أصبح ضحية الحروب. لكن الأمر أكثر هولاً مما نعتقد، ذاك هو الاستخدام المستمر للاعتداء على التعليم كأداة من أدوات الحروب. وبات استهداف التعليم عن عمد جارياً في معظم الصراعات، من كولومبيا إلى اليمن.. تُحرق المدارس ويُقتل الأساتذة ويُجنَّد التلاميذ للقتال. أما الإحصاءات فقد أصبحت كطيف لا يَلحظُ إلا المآسي الإنسانية التي تعكسها، ولم يعد بإمكانها تحديد حجم الأمل الضائع لدى الأطفال، أو ما أصاب أرواحهم من خراب. ولا ينبغي أن نعتبرها مجرد إحصاءات عادية. فالذين يهاجمون التعليم لا يدمرون الجدران أو البنى التحتية فحسب بل ويُحدثون صدمة لملايين الأطفال تلازمهم طيلة حياتهم.. تحرمهم من مستقبلهم، وتسلبهم الأمل والإنسانية وتُقوض أسس الحضارة.

لقد كرّستُ أكثر من عشرين عاما من عمري لحماية التعليم وتوفير فرصه للأطفال الأكثر حرمانا في جميع أنحاء العالم. وكنت متفائلة ومثالية في البدايات، لكن ثمّة رحلة غيرتني إلى إنسانة واقعية غير راضية. ولنأخذ العراق مثالا على ذلك، فقد حاولنا بعد غزو العراق عام 2003 حماية العلماء والأساتذة العراقيين، الذين استُهدفوا بغية زعزعة استقرار الأمة، فلاذوا يائسين إلينا بحثا عن الحماية. وقد فعلنا كل ما بوسعنا، حتى أننا قدمنا لهم سترات واقية من الرصاص. لكنهم قتلوا جميعا واحدا تلو الأخر.

وانظروا إلى غزة، حيث قُتل أكثر من أربعين طفلا وأساتذتهم عام 2009 في مدرسة تديرها الأمم المتحدة. ولَكُمْ أن تتخيلوا ماذا حدث؟ ففي صيف عام 2014 دُمرت مرة أخرى مدارس عديدة ساعدْنا على إعادة بنائها.. وسُوِيَ بالأرض عملٌ جبارٌ، وأُزهقت أرواح أطفال في عمر الزهور، وتهشمت أحلامٌ...

أما الجناة فلم ينالوا عقابهم بعد. ولعل أحد التحديات التي تواجهنا هو أن كلمة "التعليم" فقدت دلالتها التي نطمح لغرسها في النفوس..

لأن معنى المدرسة أكبر بكثير من كونها جدرانَ اسمنتية أو مقاعدَ خشبية. إنها حاضنة أرواح الأطفال وأفئدتهم، إنها اللبنة التي يبنون بها أحلامهم.. وعندما تذهب، لا يبقى سوى الفراغ الحالك.. الفراغ المُدوِّي لأصوات المدافع والقنابل.. ولا يبقى سوى إرث من العنف واليأس الذي يقضي على مستقبل الأطفال إلى الأبد. إن بناء مستقبل طفل يستغرق سنواتٍ، لذا عندما تنشب الصراعات، وتُقصف المدارس، فإن اللبنات ليست وحدها التي تتداعى، رغم إمكانية استبدالها، بل قلوب الأطفال ومستقبلهم هو الذي يتهشم، ولا يمكن تعويضه أبداً.

السيدات والسادة،

نجتمع هنا اليوم في لاهاي لنناقش سبل إصلاح المؤسسات التي أصبحت تُخفق في حماية أطفال العالم. وينبغي علينا إيصال غضبنا الصريح حيال هذا التدمير إلى قيادة مسؤولة. وقد بتنا الآن، أكثر من أي وقت مضى، في حاجة إلى إعادة التأكيد على أهدافنا المشتركة لحماية التعليم في أزمنة الحروب..وتوفير التعليم حتى في ظروف الصراعات وانعدام الأمن. لعل هذا الأمر يُحقق السلام المستدام في أوعر الأماكن وأشد حالات الطوارئ. فما الذي يمكن فعله يا تُرى؟

نحتاج أولا إلى وقف الاعتداء على التعليم، وتوفير الأمن للأطفال أثناء تعلُّمهم. وهذا يتطلب منا جميعا الالتزام بالقوانين والقرارات والمبادئ الدولية المرتبطة بحماية التعليم. ويجب أن يبدأ الالتزام بهذه القوانين من القمة. لأن مرتكبي الجرائم في حق التعليم لم يُحاسبوا إلى الآن. لماذا؟

لأن مؤسساتنا الدولية قد أصيبت بالشلل ولا تقوم بالعمل المنوط بها، ألا وهو الحيلولة دون نشوب الصراعات والأزمات الإنسانية. فمجلس الأمن هو الهيئة المسؤولة على ضمان السلم والأمن الدوليين وفقا لميثاق الأمم المتحدة، لكنه عاجز عن القيام بذلك في أكثر الظروف حاجة إليه، ومحاسبة أولئك الذين ينتهكون القانون الدولي.

ولنقف عند سوريا كمثال على ذلك، التي دُمرت فيها أربعة آلاف مدرسة على أقل تقدير منذ نشوب الصراع. وأنا على يقين أننا نتذكر جميعا الجريمة المروعة التي راح ضحيتها عشرات الأساتذة والأطفال وآباؤهم جرَّاء القصف الجوي على مدرسة في مدينة إدلب في أكتوبر الماضي. إلاَّ أن مجلس الأمن أخفق في الإجماع على إدانة هذا العمل الوحشي وضمان محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم التي تُرتكَب بحق التعليم والأطفال.

وإذا كان سادة العالم لا يتطلعون بشكل فعال للسلام فإننا عالقون في حلقة مفرغة من الدمار، مصيرنا فيها كمجتمع دولي هو الخسران.. لأننا لا يمكن ببساطة إعادة البناء بنفس الوتيرة التي يتم بها تدمير البُنى التحتية. على العكس من ذلك، لا يسعنا سوى النظر من نوافذ مُهشَّمة، واللاعبون الكبار غارقون في لعبة الموت، يقامرون غير آبهين بحياة الآخرين، تارة يغيرون قواعد اللعبة في كل شوط، وتارة أخرى يقلبون أوراقهم أو يخلطونها لتناسب مصالحهم الاستراتيجية، في تجاهل واضح للحرب المستعرة.

أما بالنسبة للآباء والأمهات الحزانى في إدلب فإن هذه ليست لعبة، كما هي الحال بالنسبة للفتيات اللواتي تحتجزهن جماعة بوكو حرام في نيجيريا. وليست لعبة بالنسبة لملايين الأطفال حول العالم في مخيمات اللجوء، الذين سُلبت منهم فرصة التعلُّم. إننا نحتاج إلى أن يضع سادة العالم السعي لإحلال السلام والأمن بدلاً من الانخراط في لعبتهم.

وينبغي على مجلس الأمن استخدام سلطاته بمقتضى الفصل الرابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يتيح التسوية السلمية للنزاعات دون اللجوء إلى العنف.. وله سلطة التحقيق وتقصّي الحقائق وتقديم التوصيات للأطراف، وإحالة النزاعات لمزيد من القرارات والإجراءات. ومع ذلك، تم استخدام حق النقض (الفيتو) مرات كثيرة بشأن قرارات هامة.

وفي الواقع منذ 1946، استخدم مجلس الأمن الدولي الفيتو في حوالي 200 مناسبة. ومع كل فيتو، يكون الضياع مصير أي فرصة لمنع الصراعات وإحلال السلام. وفي المقابل يلعب سادة العالم "لعبتهم العظمى" على حساب الفئة الأكثر هشاشة، الأطفال الذين ينتظرون منهم الحماية، بينما يحرمونهم من مستقبلهم.

فلندعو جميعاً لمزيد من الشفافية والمساءلة والمسؤولية في استخدام الفيتو لتعزيز الأمن والسلام. ولنقل جميعا لأولئك الذين يعتقدون أن بمقدورهم الإعتداء على المدارس والتلاميذ والأساتذة ويتمتعون بالحصانة: "نحن نراقبكم، وقد عزمنا على جمع الأدلة والعمل بالقانون لمحاسبتكم على الجرم الذي ارتكبتموه بحق أجيال من الأطفال الذين حرمتموهم من التعلُّم والمستقبل".

وبالنسبة لنا نحن الذين كُلِّفنا بأهداف التنمية المستدامة لعام 2030، يجب أن نؤكد أن التعليم هو الحجر الأساس في التنمية المستدامة. فلا يمكننا بناء مبنى تتعرض أساساته للتدمير المتواصل. كما لا يمكننا بناء مبنى مستدام دون الاستثمار في التعليم كوسيلة للتعافي في مرحلة ما بعد الصرعات.

وينبغي على الذين يقدمون موازنات للمساعدات الإنمائية في العالم أن يدركوا القيمة طويلة الأمد للإستثمار في التعليم النوعي والآمن.. وأن يعوا إمكانية التعليم في منع الصراعات والتعافي من آثارها وبسط الوئام داخل المجتمعات.

لقد عملت مؤسستي "التعليم فوق الجميع" لأكثر من عقد من الزمن على حماية التعليم وتوفيره لملايين الأطفال. وحيثما عملنا، نرى أن وضع التعليم في صميم التنمية واعتماد نهج متعدد القطاعات في كل مشاريعنا يؤدي إلى تحسن حياة الأفراد والمجتمعات بأشكال متعددة.

اسمحوا لي أن أقدم مثالاً لأحد مشاريعنا التي توفر التعليم الابتدائي، والتي تستخدم التعليم كمحفز لبناء المهارات المالية وتوفير الدخل لفئات عريضة من المجتمع. نعمل حاليا مع شريك محلي في مدينة بايل في إثيوبيا، حيث يمثل الفقر عائقا كبيرا أمام التحاق الأطفال بالمدارس.. وقمنا بمساعدة المجتمع على تطوير مشاريع صغيرة يساهم ربحها في تسيير المدرسة. على سبيل المثال نقوم بتقديم البذور للمدارس، فيزرع الآباء المحاصيل التي يمكن بيعها، ومن خلالها يتم تمويل المدارس وأنشطتها. فأصبح الأطفال قادرين على الالتحاق بالمدارس، والآباء يكتسبون مهارات مالية جديدة، والمجتمع يزيد تماسكه، والمدارس تموّل نفسها بنفسها. وأنا أعرف أن تعليم هذه المهارات المالية هو أمر تعمل جلالة الملكة بجد وإتقان على تحسينه، لأنه بالغ الأهمية في تحقيق رؤية الأهداف الكونية. فالتعليم وبناء المهارات أصبحا الآن أساسيين في تعزيز التعافي في مرحلة ما بعد الصراعات ومنع المجتمعات من الانتكاسة والارتماء مجددا في آتون الصراعات.

السيدات والسادة،

في خضم هذا الدمار، يجلب التعليم وعود التجديد والمستقبل الأفضل. سأحدثكم عن فتى التقيته مؤخرا، رفض السماح لأكثر الدمار تطرفاً أن يقضي على طموحه. فقد كان لي أن زرت ذات يوم مدرسة في السودان في إطار دعم مؤسستي "التعليم فوق الجميع". وهي مدرسة خاصة بالأطفال اللاجئين من مناطق  الصراعات، ممن فاتتهم سنواتٌ من التحصيل الدراسي. وأنا أتجول في المدرسة لفت نظري فتىً عمره بين ١٠ و١١ عاما، يجلس بجانب اختراعات ميكانيكية صنعها بنفسه، من بينها سيارات تعمل بالطاقة الشمسية، وسارية علم الكترونية. لاحظت وأنا أطالع اختراعاته بإعجاب نموذجَ منزلٍ مصغر بجانبه، فلما سألته عنه ذُهلت بجوابه المفعم باليقين التام والمطلق، حيث قال: "هذا هو المنزل الذي سأبنيه يوما ما لأسرتي". كان هذا فتى نجا من ويلات الحروب، بعد أن شهد فظاعتها التي لم تُروَ، وهجر بيته فارغ اليدين. لكنه الآن يعيش بفضل التعليم، ويحلم، ويحظى بفرصة لتحقيق إمكاناته الذاتية. وقد أثارني في تلك اللحظة فرادة التعليم في تغيير حياة الأفراد على هذا النحو.. بالرغم مما استبد بيَ من غضب تجاه هذا الدمار، إلاَّ أن أثر التعليم على هذا الفتى جدّد عزمي على مواصلة الكفاح. ورغم ما استبدَّ بيَ من سخطٍ، فإن إيماني بقوة التعليم على إحداث التغيير لن يتزعزع.

سأواصل الكفاح والبحث عن الفرص لغرس بذور المستقبل في نفوس الأطفال، وإن كان ذلك في أكثر الظروف عنفا ويأساً. لقد أصبح الاعتداء على التعليم أمراً متكرراً مَقيتا، فلم يعد بإمكاننا التغاضي بدم بارد عن هذه المعاناة الإنسانية. ينبغي علينا أن نُحوِّل غضبنا إلى عملٍ ذكي مستدامٍ. يمكننا تحقيق أشياء كثيرة إذا وحّدنا قوانا على مستوى الشراكة والأهداف.

وإننا لنطالب جميع الهيئات المجتمعة هنا اليوم، من منظمات غير حكومية، وناشطين، وعاملين في المجال الإنساني والهيئات الدولية للوصول إلى أصحاب السلطة ومواطني العالم، وتوعيتهم بالأزمة التي نواجهها في حماية التعليم في جميع أنحاء العالم. وإننا نناشد أصحاب السلطة أن يتمسكوا بقيمهم والمسؤوليات الملقاة على عاتقهم، وأن يستثمروا في التعليم الكفيل ببناء مجتمعات منسجمة ومزدهرة.

ولْنلتزم بتأييدنا العام لأنه أساس للتغيير.. مستذكرين جذور التغيير التي تَيْنَعُ دائما في الحركات الناشطة على المستوى الشعبي.

ولنرقى إلى مستوى قيمنا، تلك القيم الإنسانية المشتركة كالأمن والسلام والعدالة التي بُنيت عليها هذه المدينة الرائعة.

ولنُجَسِّد الكلمات التي قالها فيلسوف النزعة الإنسية الهولندي إيراسموس في القرن السادس عشر: "يكمن الأمل الجوهري لأمة ما في التعليم المناسب لشبابها".

وإذا كنا قادرين معاً على الشراكة وحماية حق الأطفال في التعلُّم، وقادرين على منح التعليم فرصة لكسر حلقة العنف المفرغة، وباستطاعتنا نشر الأمل والنور حيثما استبد اليأس والظلام، عندها فقط تُصبح أهداف التنمية المستدامة رؤية مستدامة حقيقية.

شكرا لحسن إصغائكم