حفل أكاديمية الفنون الجميلة بباريس

باريس, 24 يونيو 2009

حضرات السيدات والسادة،،،

أشكركم جزيل الشكر لتفضلكم بالحضور لهذا الحفل، كما يسعدني باسمكم أن أثني على جهود السيد تايبيير وفريق عمله، وأن أشكر أعضاء أكاديمية الفنون الجميلة الذين أتشرف بالإلتحاق بهم.

عندما تلقيت سنة 2007 دعوة الإنتساب إلى عضوية هذا الصرح، أصدقكم القول بأنني فكرت ملياً قبل أن أوافق.

لم يكن ذلك الموقف حكماً مسبقاً على المنظومة ذاتها، لأنني أقدر المكانة الخاصة والقيمة النوعية لمعهد فرنسا وتوابعه كإرث حضاري يراكم حقباً وحقباً من الجهد الإنساني منذ عصر الأنوار إلى الآن.إن الموقف ذاك، أملته قناعاتي الشخصية من منطلق الإلتزام والحرص على تنظيم الجهد وتسخيره لخدمة المبادئ التي أؤمن بها.

أنا على يقين بأنكم ستتفقون معي بأن الإنسان في مثل هذه المواقف يكون مطوقاً بأمانة ومسؤولية تجاه ذاته أولاً وتجاه مجتمعه وأيضاً تجاه الإنسانية.

وعليه فإن الوفاء والإلتزام بمقتضيات تلك الأمانة، كل ذلك يتطلب حسن اختيار المسارات المحققة للأهداف والأولوليات، وبالنسبة إلي: تحقيق التفاهم بين البشر والتصالح بين الحضارات ثم الانخراط فيها.

هذا بالذات ما أقنعني بأن شرف الإنتساب إلى عضوية أكاديمية الفنون الجميلة سيشكل خطاً آخر يمكن إنتهاجه لتحقيق ذلك.

اليوم أنا سعيدة بتواجدي معكم عضواً في هذا الصرح، سعيدة بمخاطبة هذه الصفوة المعتبرة من أهل السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة والفن.واستأذنكم أن يكون منطلق هذه الكلمة استحضار الذكرى السنوية الثالثة لوفاة الموسيقار جيورجي ليجيتي الذي اختير عضواً بالأكاديمية.

جيورجي ليجيتي غير حاضر معنا الآن، لم تسعفه الظروف للإلتحاق بعضوية أكاديمية الفنون الجميلة كعنوان للإبداع والتحدي.إن قراءة سيرته الذاتية تؤكد مقولة أوجين يونسكو وأقتبس "إن العمل الفني ليس انعكاساً ولا صورة للعالم وإنما هو صورة من العالم".

لا أدعي احترافي للنقد الفني، غير أنه من خلال تلك القراءة استوقفني أمران اثنان وجها وقادا تحليلاتي واستنتاجاتي، وربما يرجع ذلك لكون قضايا التعليم والحوار الحضاري تشكل صدارة أولوياتي.

الأمر الأول يتعلق بممارسة ليجيتي لمهنة التدريس، تلك المهنة التي اعتبرها أقدس المهن ليس لكونها العلاج الكيماوي من آفة الجهل فحسب بل لأنها السبيل إلى استمرار الحياة والتقدم.

لم يكن ليجيتي فنانا منعزلاً في برج عاجي، وإنما حرص على تسخير موهبته ومعرفته لخدمة الآخرين ،فقد مارس التدريس في مسقط رأسه هنغاريا أولاً، ثم عندما انتسب للتدريس في أحد معاهد هامبورج منذ 1973 إلى أن تقاعد وظيفياً في نفس عام سقوط جدار برلين.

أما الأمر الثاني فيتعلق بموسوعية ليجيتي الذي لم يتوقف اهتمامه بالموسيقى فحسب بل اتسع برحابة ليشمل الأدب والفن والمعمار والعلوم والرياضيات وبخاصة الهندسة فانفتح بذلك على الحضارات الإنسانية.

إنه يذكرنا برواد النهضة من المبدعين الذين حرصوا على استيعاب كل مقومات التراث الحضاري الإنساني وصاغوه في قالب يسهل على العامة من الناس فهمه واستيعابه.

أدعوكم حضرات السيدات والسادة إلى إلتزام دقيقة صمت في ذكرى الموسيقار ليجيتي.

حضرات السيدات والسادة،،،

أمام ما يواجه الإنسانية من تحديات كبرى، لا أجد لها تناغماً ولا اتساقاً مع منطق هذه الألفية الثالثة وقواعدها الحقوقية والإنسانية، تزداد أهمية حسن استثمار الطاقة الكامنة والمتجددة التي خص بها الله سبحانه وتعالى الكائن البشري وميزه بها عن باقي المخلوقات.

نحتاج اليوم وأكثر من أي وقت مضى، إلى استنهاض تلك الطاقة وتحفيزها بعيداً عن كل أشكال الأنانية والإستكبار والإملاء والإقصاء.نحتاج إلى التعلم وبإستمرار من تجارب الماضي ودروسه لكي نعيد للحياة قيمتها ورونقها، وأن نبني من جديد أسساً قوية للأمل والثقة في نفوسنا ونفوس أبنائنا وأحفادنا.

هذا هو التغيير الحقيقي الذي نحتاج إليه وبكل إلحاح الآن وليس غداً لأنه طوق النجاة للبشرية كل البشرية.

لننظر حضرات السيدات والسادة بكل جدية ومسؤولية إلى العالم من حولنا، في أدنى الأرض وأقصاها، كيف نقضي بأيدينا على بيئتنا فنحدث هذا الإنتحار البطئ، كيف نكتفي بردود الأفعال لا الأفعال ذاتها حيال الفقر والمرض واستشراء الجهل وانتشار الحروب والنزاعات لدرجة أصبح مقبولاً ومستساغاً لدينا مع كامل الأسف، حضور ثقافة الموت وكأنها الأصل وانحسار ثقافة الحياة وكأنها الفرع أو النتيجة.

أين نحن من رسالة الفن والإبداع الإنساني وهذا الوضع اللامنطقي والمعيب؟

إن الإبداع والإبتكار والذكاء وهي رموز خاصة بالإنسان، لا تعترف أبداً بالحدود والحواجز مهما كانت قوية.

وحتى أكون منسجمة مع طبيعة هذه المناسبة ونحن هنا في فضاء الفن والابداع، أسوق لكم حالة واقعية، حالة نجح فيها الذكاء الإنساني والعبقرية المجتمعية حيث وقفت السياسة عاجزة.

فعندما اضطر المبدع المسلم الشهير بزرياب على ترك بغداد وهي عاصمة الخلافة في أوج قوتها إلى قرطبة بالأندلس وقد كانت أيضاً عاصمة للغرب الإسلامي، حاملاً معه ثقافته العربية، الفارسية، الهندية والإغريقية، لم يجد كبير عناء للتأثير في نخب الأندلس وعامتها على حد سواء.

لم يتوقف ذلك التأثير عند حدود الموسيقى التي أبدع فيها زرياب بل تجاوزه إلى إثراء تشكيل نمط حياة مجتمع ،استفاد زرياب من مناخ الحرية بالأندلس، فأنشأ مدرسة لتعليم الموسيقى كان طلبتها من البنين والبنات، أثر في أنماط عيش الأندلسيين في لباسهم وأكلهم وزينتهم.

لن أطيل عليكم بمثل هذه التفاصيل التي حللها مؤرخون فرنسيون من قبيل تيراس وبروفونسال.

لكن المهم أن عبقرية المبدع وقابلية المجتمع أثمرتا معاً عن ميلاد الحضارة الأندلسية التي هي خلاصة انصهار الحضارة الإسلامية الشرقية بالمؤثرات القوطية والبيزنطية والبربرية والرومانية بخلفياتها المسيحية واليهودية.

لقد كانت قرطبة منفصلة عن بغداد سياسياً لكنهما بفضل الفن والفكر أي التواصل الحضاري، شكلتا معاً وجهين لعملة واحدة هي الحضارة الإسلامية ،لقد أصبحت قرطبة عاصمة عالمية تؤثر في العواصم الأخرى، تمدها بالخبرات المتعددة الفكرية والثقافية والفنية فأنجبت ابن رشد كما انجبت موسى بن ميمون.

لذلك ألم يفلح زرياب الفنان والمبدع في مد الجسور بين المجتمعات والتقريب بين الأفكار والثقافات حيث وقفت السياسة عاجزة؟

هذه هي العبرة التي يجب أن نستخلصها من هذه الحالة التي كان تشكلها إيذاناً لميلاد مد حضاري قوامه التسامح والإنفتاح والقبول بالإختلاف، وهي قيم أسست كما هو معلوم لدى الجميع لميلاد النهضة الأوربية.

ولأن الفن وحده كما قال غوته وأقتبس " يتيح للإنسان تحقيق ما لا تتحه الحياة له في الواقع " فإننا نحتاج اليوم إلى نهضة كونية إنسانية يكون من بين أهدافها تعزيز الحق في التعليم الجيد لكل البشرية، تعليم يقوم على النقد البناء والتساؤل وحل المشكلات، تعليم يكون فيه للفن ومناهجه مكانة حقيقية وقيمة نوعية وذلك للإرتقاء بذكاء المتعلم و مخيلته وذوقه وأحاسيسه منذ نعومة أظافره ومرافقته مدى الحياة.

إنني حضرات السيدات والسادة أومن مثلكم بأن رسالة الفن سامية وخالدة. وأنا هنا مثلكم أقصد بالفن ذاك الملتزم بقضايا الأنسان والمحقق لكرامته والمدافع عنها.

ذلك الفن الذي لايقيم وزنا ولا اعتبارا لأي فنان يسخّر فنه لشن حرب ابادة على معتقد ديني واتباعه ليحولهم بكل سذاجة الى عرق دوني ليس له الحق في العيش ولو في الحضيض.

فن لا وزن فيه ولا قيمة ولا تقدير لموسيقار قاده وهمه وليس الهامه الغيبي إلى الاعتقاد سذاجة بانه مخلص الكون المنتظر من قوى الشر لأجل بناء مدينة فاضلة جديدة ،فن لا يعترف بباحث ساذج أكتشف فجأة في اوراقه المبعثرة وثنايا مخطوطاته الوهمية عن وطن بديل لشعب تائه فيحول الفن السراب حقيقة .

هذه هي رسالة الفن الخالدة، هي رسالة هذه الأكاديمية،أنها ليست وصفة سحرية ولا آنية، إنها مقاربة لحل جذري بعيد المدى، إنها ترياق ناجع لتقوية مناعتنا جميعاً ضد الإقصاء والتمييز حتى نعيد للإنسية كما نتصورها وكما يجب أن تكون، مداها الحقيقي،فالفن وسيلتنا لأسترجاع إنسانيتنا المهددة بالإندثار.

حينها فقط يصبح لتصالح الحضارات معنى ودلالة وحينها فقط أيضاً تصبح لنا جميعاً مشروعية وأهلية الحق في الإنتساب إلى هذه الألفية.

هكذا فهمت رسالة أكاديمية الفنون الجميلة ورؤيتها.

أشكركم على حسن إصغائكم،