خطاب صاحبة السمو في حفل الإعلان الرسمي عن معهد قطر للرعاية الصحية الدقيقة
الدوحه, 30 أبريل 2024
السلام عليكم..
مبكراً أدركنا وآمنّا في قطر بأنّ الإنسانَ أثمنُ رأسمال، كلُّ شيءٍ يبدأُ بهِ وينتهي بهِ، وكلُّ حقائقِ الحياةِ وتفاصيلِها تدورُ حولَهُ، إذا ما كانَ معافىً، يتعافى كلُّ مَن وما حولَهُ، وإذا ما تدهورتْ أحوالُهُ يتدهورُ كلُّ شيء.
ومِن هذهِ الرؤيةِ انطلقتِ الأفكارُ والمشاريعُ نحوَ التنميةِ البشرية لتقومَ عليها رؤيةُ قطر الوطنية، وكانَ إجماعاً على جوهريّةِ الصحة في أنَّ كلّاً من صحةِ الوطنِ وصحةِ المجتمعِ تُبنى على صحةِ الفرد. وعلى هذا النهجِ حشَدنا الشروطَ اللازمةَ لإرساءِ ركائزِ بِنيةٍ تحتيةٍ صحية، تستجيبُ لحاجاتِنا وتطلعاتِنا.
وفي هذا السياق عَمِلْنا على تعزيزِ الفَهمِ العام للطبِ الدقيق وفائدتِهِ للفردِ والمجتمع، وزيادةِ الوعيِ بينَ الناسِ بماهيّةِ الطبِ الدقيق، منذُ سنوات.ففي أحيانٍ كثيرةِ، اُتُبِعَ نهجٌ واحدٌ في علاجِ جميعِ مرضى السرطانِ والسكري والزهايمر وغيرها، في حين أظهرتِ الأبحاثُ أنّ المرضى يستجيبونَ بشكلٍ متباينٍ للعلاجاتِ المختلفة وأنَّ خصوصياتِ التركيبِ الجينيِّ والجزيئي للفردِ وبيئتِهِ الاجتماعيةِ ونمطِ حياتِهِ، والتي تُحدّدُ خطرَ الإصابة، تُوضِحُ كيفيةَ تأثيرِها على حياةِ المريضِ ومدى استجابتِهِ لمختلفِ العلاجاتِ، الأمرُ الذي يمكِّـنُنا أيضاً من تطويرِ أساليبَ وقائيةٍ مُشخصَنةٍ جديدة.
ولكنَّ الطبَّ الدقيقَ ليسَ سلعةً يُمكنُ للبلدانِ أنْ تشتريها أو تستوردَها وتقدِّمَها لمستشفياتِها لتوزّعَها على المرضى، إنّما فضلاً عن الاستثماراتِ المالية، يتطلّبُ التنفيذُ الناجحُ وتسخيرُ الإمكاناتِ الكاملةِ للـطبِّ الدقيق إنشاءَ تقنياتٍ وبِنيةٍ تحتيةٍ متقدِّمة تسمحُ لنا برسمِ الخريطةِ الجينيةِ والجزيئية ليسَ فقط لأفرادٍ محدَّدينَ، ولكنْ للسكّانِ بصفةٍ عامة.
وسوى ذلك، يتطلّبُ الطبُّ الدقيق أيضاً تنميةَ قدراتِ القوى العاملة بمهاراتٍ جديدةٍ وإيجادَ نظامِ ابتكارٍ متكاملٍ وموحَّدٍ في مجالِ .الرعايةِ الصحية حيثُ يعملُ العلماءُ والأطباءُ وعُلماءُ الأخلاقياتِ البيولوجية وصانعو السياساتِ والخبراءُ القانونيون
والسلطاتُ الصحية معاً وبشكلٍ وثيقٍ جداً مع أفرادِ المجتمعِ بهدفِ الوصولِ إلى الغايةِ المنشودة.
وقد حَظِـيَتْ إسهاماتُ علمائنا باهتمامٍ واسعٍ انعكسَ في نشرِ دراساتٍ عاليةِ التأثيرِ في بعضِ المجلاتِ العلميةِ الأكثرَ شهرةً،
والمشاركةِ في الدراساتِ الدوليةِ الهامةِ والشبكاتِ، عِلاوةً على التعاونِ الذي أدّى إلى العديدِ من الاكتشافاتِ والاختراقاتِ الرائدة.
وما كانَ لكلِّ هذا أنْ يتحقّقَ لولا تفاني وتميّزُ علمائنا وأطبائنا والنظامُ البيئيُّ المتكاملُ الذي بنيناهُ معاً. وقد تبلورَ ذلك في انضمامِ قطر مؤخراً للتحالفِ الدولي للجينومِ والصحة، ما رسّخَ دورَ قطر الرائدَ عالمياً في ميدانِ عِلمِ الجينوم، وما يؤكّدُ مشاركتَنا الفعّالةَفي رسمِ خرائطِ الجينومِ العربي في الساحةِ العالمية، وسَعْـيَنا إلى معالجةِ القصورِ في التمثيلِ الذي يواجهُهُ الجينومُ العربي في قواعدِ بياناتِ البنكِ الحيويِّ للجينوم على المستوى الدولي.
وتساهمُ قطر في الحدِّ من هذه المشكلةِ بواسطةِ مشروعِ الجينوم الخاصِّ بها، والذي بدأَ بإعدادِ تسلسلٍ لجينومِ أكثرَ من عشرةٍ بالمئة من المواطنين. وكنّا أولَّ المسهِمينَ العربَ في "مبادرةِ الجينومِ المضيفِ لكوفيد-19" التابعةِ للاتحادِ العالمي للتحاليلِ التجميعيةِ للبنوكِ الحيوية. وكان الباحثونَ من وزارةِ الصحة العامة ومؤسسةِ حمد الطبية وجامعةِ وايل كورنيل للطب - قطر في طليعةِ الذين قاموا بتقييمِ ومقارنةِ فعاليةِ اللقاحاتوقدموا اسهاماتٍ كبيرةً من أجلِ مكافحة كوفيد-19.
كنّا في قطر من بينَ الحالمين بالمستقبلِ الذين آمنوا بوعودِ الطبِ الدقيقِ ووضعوا خطةً منهجيةً لتلبيةِ كلِّ هذهِ المتطلباتِ ابتداءً من بناءِ مرافقَ حديثةٍ لتسلسلِ الجينوم في سدرةِ للطب وليسَ انتهاءً بإنشاءِ بنكٍ حيويٍّ متطورٍ بالتعاونِ مع مؤسسةِ حمدِ الطبية ووزارةِ الصحةِ العامة، وصولاً إلى الحوارِ حولَ الأخلاقِ الإسلاميةِ في علمِ الجينوم والطبِ الدقيق الذي يديرُهُ علماؤنا في كليةِ الدراساتِ الإسلاميةِ بجامعةِ حمدِ بن خليفة.
ومعَ استحداثِ جامعةِ قطر وجامعةِ حمد بن خليفة برامجَ ماجستير ودكتوراه مبتكرةً وديناميكيةً لتدريبِ الجيلِ القادمِ من العلماءِ والأطباءِ والموظفينَ الفنيينَ والمستشارينَ في علمِ الوراثة، فقد تَأكدْنا من أنّنا سنمتلكُ المهاراتِ والقِوى العاملةِ اللازمة ِليسَ فقط لتنفيذِ برنامجِ الطبِ الدقيقِ وتطويرِ الرعايةِ الصحية، ولكنْ أيضاً بغيةَ الاستجابةِ للتحديّاتِ المحتملةِ وترجمةِ الاكتشافاتِ الجديدةِ والفرصِ الناشئةِ إلى علاجاتٍ جديدةٍ تعملُ على تحسينِ الرعايةِ الصحية ومستوى العيشِ لسكّان قطر جميعِهم.
وبهذه المناسبة أدعو الجميعَ للمشاركةِ في هذا المشروعِ الذي يصنعُ ثورةً صحيةً في قطر، تحديداً في مجالِ الرعايةِ الصحيةِ الدقيقة، وهوَ مشروعٌ وطنيٌّ لن يخدمَ قطرَ والمنطقةَ فحسْب، بل ويخدم الإنسانيةَ جمعاء.
وتأسيساً على كلِّ ما أسلفتُ، أشعرُ بالفخرِ بأننا في طليعةِ دولِ المنطقةِ في مجالِ الطبِ الدقيق، وفي الوقتِ نفسِهِ يسرُّني أنْ أُعلِنَ اليوم رسمياً عن المعهدِ القطري للرعايةِ الصحيّةِ الدقيقة الذي ظلّ يعمل بصمتٍ منذ عدة سنوات بوصفِهِ مِظَلّةً للمؤسساتِ ذات الصلة وأفقَاً واسعاً لصحةٍ مجتمعيّةٍ تتناسبُ مع غاياتِ رؤيةِ قطر الوطنية ألفين وثلاثين.
ولا بدّ لي هنا مِن أن أشكرَ الأستاذة أسماء آل ثاني لقيادتِها السديدة للمعهد في السنواتِ الماضية وإرسائِها البنيةَ الأساسيةَ التي مكّنتْهُ من تَبوّءِ موقعٍ مهمٍ على خريطةِ الأجهزةِ المعنيةِ بالطبِ الدقيق.أحيّي كلَّ مَن ساهمَ في هذا المشروع وكلَّ مَن حضرَ حفلَ إعلانِهِ هنا..
أتمنى لكم وافر الصحة...
والسلام عليكم.