خطاب صاحبة السمو في حدث قلب واحد من أجل سلام في فلسطين

Istanbul, Turkey , 15 نوفمبر 2023

 

أحيّي وأشكرُ بدءاً أختي السيدةَ أمينة أردوغان،

حرم فخامة الرئيس رجب طيب أردوغان، على مبادرتِها المقدَّرة لنجتمعَ اليومَ في ضيافتِها دعماً للشعبِ الفلسطيني وهي دائماً سبّاقةٌ في هكذا مبادراتٍ وراعيةً لها.كما أحيّي جميعَ السيداتِ الحاضرات وأتمنّى أنْ نُوَّفقَ في تحقيقِ الهدفِ المرجو من الاجتماع.

يشرِّفُني دائماً أنْ أتواجدَ حيثُما تكونُ المواقفُ مشرِّفةً، حيثُما تجتمعُ أصواتُ وإراداتُ التضامنِ معَ سكّانِ غزة الصامدينَ الذين فتكَتْ بهم قواتُ الاحتلالِ الإسرائيلي دونَ أيِّ اعتبارٍ للقانونِ الدولي، وهي مناسبةٌ لأُعرِبَ من هنا عن الإشادةِ بكلِّ مَن رفعوا أصواتَهم الحرّةَ في جميع ِأنحاءِ العالمِ دعماً لفلسطين، وقد شاهدوا جرائمَ الحربِ من إبادةٍ جماعيةٍ وتطهيرٍ عِرقي وتهجيرٍ قسري،كما تابعوا كيف يُخرقُ القانونُ الدوليُّ الإنساني ولوائحُ حقوقِ الإنسان،

بحِممِ القصفِ الوحشي التي تستهدفُ المدنيين وتُحيلُ منازلَهم إلى خراب، في تحدٍّ صارخٍ للمجتمعِ الدولي وأنظمتِهِ.ولعلَّ الخللَ يكمنُ في المجتمعِ الدولي نفسِهِ.

وكما قالَ سموُّ الأمير في قمّةِ الرياض، واقتبسُ بعضَاً من أقوالِهِ:

إنَّ النظامَ الدوليَّ يَخذِلُ نفسَهُ قبلَ أنْ يَخذِلَنا بالسماحِ بقصفِ المستشفياتِ والأحياءِ والمخيمات. لقد فشلَ المجتمعُ الدولي في اتخّاذِ ما مِن شأنِهِ أنْ يوقفَ المجازرَ ويضعَ حدّاً لهذهِ الحربِ العدوانية. ونتساءلُ: إلى متى يظلُّ المجتمعُ الدوليُّ يعاملُ إسرائيلَ وكأنَّها فوقَ القانونِ الدولي؟

الحضور الكريم..

لقد عايشنا طوالَ عقودٍ كيفَ سوّقتْ إسرائيل سردياتٍ تاريخيةً ملفَّقةً دحضَها مؤرخونَ كُثر من بينهم إسرائيليون، وسيطرتْ هذه السرديّاتُ على العقلِ الجماعي العالمي حتى إذا ما تجرّأَ أحدٌ أنْ يناقشَ أيّةَ سرديةٍ إسرائيلية سيُطاحُ بهِ بتهمةِ معاداةِ السامية، وهذه بحد ذاتها سرديّةٌ إشكاليّة أخرى، تَـقصِرُ الساميةَ على اليهود.

عندما يستحوذُون على العِرق السامي لينسبوه إليهم وينكروه على سواهم من الأقوامِ

التي تتحدثُ اللغاتِ الساميةِ من عربٍ وسريان وآشوريين وكلدان.

ولستُ هنا بصددِ تقديمِ درسٍ في التاريخ،إنمّا قصدتُ التنبيهَ إلى أنَّ الصمتَ على أيّةِ سرديةٍ تاريخيةٍ خاطئةٍ وعدمَ التدقيقِ فيها وتحليلِ منابعِها سوفَ يُثبِّـتُها عَبْرَ الزمن ويجعلُها في مقامِ الحقيقة، ولعلَّ العداءَ للساميةِ أفضلُ مثالٍ على ذلك، حتى أنّنا كعربٍ ساميّين تقبّلناها بدونِ تفكيرٍ أو نقاشٍ وأصبحنا عندَ أيِّ حوارٍ نحاولُ أنْ ننفي عن أنفسِنا تهمةَ معاداةِ السامية

ونسينا أننا ساميون، فيما يبقى القولُ الفَصْل في أنّنا لا نقبلُ أيَّ عداءٍ للإنسانية، مهما كانَ مصدرُهُ، سواءٌ من أحفادِ سام أو حام أو غيرهما.

إنَّ العالمَ كلَّهُ مطالبٌ بأنْ يراجعَ قبولَهُ لهذهِ السردياتِ التي أُمليتْ عليه لعقودٍ عديدة، وأنْ يعملَ على فحصِ الحقائق، ويحرصَ على الدِقّةِ في نقلِ الأخبار، وترجيحِ الطرحِ الموضوعي، وعدمِ الوقوعِ في فخِّ الأخبارِ الكاذبةِ التي تهدفُ إلى تشويهِ الوقائع.

كما يتوجّبُ على العالمِ الإسلامي أنْ يقدّمَ سرديتَهُ المضادة ويسعى بمختلفِ الوسائلِ،

الإعلاميةِ والفكريةِ والثقافيةِ والرسمية، إلى نشرِها حيثما يُقتَضى النشر، حتى تبقى في ذاكرةِ التاريخ لكي تعودَ إليها أجيالُ المستقبل كلّما واجهتْ صراعاً سردياً جديداً.

الحضورَ الكريم..

تَكشِفُ لنا إحصائياتُ هذه الحربِ عن هَـوْلِ الخسائرِ في الأرواحِ والممتلكات، حيثُ اُستشهِدَ منذُ السابعِ من أكتوبرِ الماضي حتى يوم أمس أحد عشر ألفاً وثلاثمئة وعشرون شهيداً وعدد أكبر من الجرحى.

وبين الشهداء ثلاثة آلاف ومئة وثلاثون امرأة وأربعة آلاف وستمئة وثلاثون طفلاً. ووفقاً لإحصاءاتِ منظمةِ الصحة العالمية يموتُ طفلٌ في غزة كلَّ عشر دقائق. وهذا يعني ما إنْ أنتهي من كلَمَتي يكون طفلٌ قد فارقَ الحياة، وما أن تنتهي جلستُنا يكون ثمانية عشر طفلاً قد لقوا حتفَهم:

 

ثمانية عشر مشروعَ إنسان لم يكتمل لأنّ هناكَ من قرّر بدمٍ بارد أن ينهيه قبل أن يبدأ.

وكما تُسفَكُ دماءُ الأطفالِ والنساءِ والشيوخ فلا عجبَ أن تتحوّلَ مئاتُ المباني إلى ركام، بعدَ أن شنَّ الطيرانُ الحربيُّ الإسرائيلي ثلاثةَ آلافٍ وثلاثمئةَ غارة، دمّرتْ المستشفياتِ والمراكزَ الصحية وأخرجتها عن الخدمة وهدّمتْ آلافَ الوحداتِ السكنية والمقرّاتِ الحكومية وأماكنَ العبادة من مساجدَ وكنائسَ كما شلّتِ الحركةَ التعليمية وأنهتِ العامَ الدراسي بهدمِها مئتين وثلاثةً وخمسين مدرسة.

ويستدعي هذا الواقعُ إلى الأذهان، اعتمادَ مجلسُ الأمنِ الدولي، بالإجماع، عام ألفين وواحد وعشرين، قراراً فريداً، اقترحتْهُ دولةُ قطر، يدينُ بشدةٍ الهجماتِ ضدَّ المدارسِ والأطفالِ والمعلمينَ

ويحثُّ أطرافَ النزاعِ على حمايةِ الحقِّ في التعليمِ على الفور. وها نحنُ نشهدُ ما يحدثُ في غزة مِن تعارضٍ كليٍّ مع هذا القرار. ومن المؤسفِ أنّ المجتمعَ الدولي عجِزَ عن الضغطِ على إسرائيل، في الأقلِّ، للكفِّ عن استهدافِ المستشفياتِ والمدارس.

انطلاقا من إيماني بأنّ إعادةَ بناءِ التعليم تعني إعادةَ بناءِ الأملِ بالمستقبل، سأواصلُ دأْبَي على دعمِ قطاعِ التعليمِ في غزة، من خلالِ مؤسسةِ التعليم فوق الجميع، بتشجيعٍ ودعمٍ ماليٍّ من دولةٍ قطر التي أتشرّفُ بالانتماءِ إليها،

قطر التي رفضتْ أن تكونَ على الهامش وتبوّأتْ مكانةً في صِنْعِ التاريخِ ستَحفِظُ لها صورةً مشرقةً في ذاكرة ِالأجيالِ العربيةِ والقطرية في أنّها من الدولِ صغيرةِ الحجم مساحةً وسكّاناً،

ولكنّها الكبيرةُ برجالِها وأخلاقِها ومواقفِها، طاولتْ بمبادئها دولاً ادّعتِ العظمةَ والديموقراطيةَ

فكشفتِ الحربُ على غزةَ عن خواءِ عظَمَتِها، وعن لوثةِ المعاييرِ المزدوجة في ديمقراطيتِها.

وطالما أنّ هناكَ إرادتين تتمايزان:

إرادةُ مَن يبني وإرادةُ مَن يهدِم. لا خيارَ لنا، أخلاقياً وقانونياً وإنسانياً، سوى الوقوفِ مع إرادةِ البناءِ ودعمِها.واستحضرُ هنا عندما قبِلتُ دعوةَ المديرِ العام لمنظمةِ اليونسكو حينذاك كوتشيرو ماتسورا لأكونَ مبعوثاً خاصاً للتعليمِ الأساسي والعالي.

وقد حملتُ حينَها الكثيرَ من الاحترامِ لهذه المنظمة وقدراً محسوباً وموزوناً من الرهانِ على العمل معاً لتغيير وضع التعليم وحمايته، ولكنني صُدمتُ مؤخراً بصمتِ منظمةِ اليونسكو حيالَ تلاميذٍ يُقتلون ومدارسَ تُهدَم في غزة، الأمرُ الذي لا يتناسبُ البتّةَ مع تاريخ اليونسكو ومبادئها.

 

وقبلَ هذا وذاك،يتعيّنُ علينا نقدُ الصمتِ حيثما كان، مثلما يتعيّنُ على دولِنا الضغطُ من أجلِ وقْفِ الحربِ لإنقاذِ ما يمكنُ إنقاذُهُ من القطاعِ الصحي وتزويدِ أهل غزة بالحاجاتِ الضروريةِ للحياة.

وفي الختام..

أشهدُ أنَّ كلَّ ما نفعلُهُ من أجلِ أشقائنا الفلسطينيين في غزّةَ والضِفّةِ الغربية لَهوَ أقلُّ ممّا يستحقّون، وهم الذين يمثّلونَ، في هذه اللحظةِ من التاريخ، كرامةَ هذه الأمة في زمنِ الرداءةِ والتردّي.

وأشهدُ أنَّكم يا أطفالَ فلسطين وُلِدتم رجالاً، وفضحَتم بصمودُكم وثباتُكم ترَنُّحَ وانكسارَ من حَسَبناهم يوماً رجالاً!

أقبّلُ هاماتِكم..

دمتم فخراً لنا..