خطاب صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر في اليوم الدولي لحماية التعليم من الهجمات

باريس, فرنسا , 09 سبتمبر 2022

 

الضيوف الكرام..

قبل أسبوع من يومنا هذا، هنا في فرنسا، كما هي الحال في معظم الدول الأوروبية، انتهت العطلة الصيفية، وبدأ عامٌ دراسي جديد. انطلقَ الأطفال من منازلهم في جميع أنحاء هذه القارة، حَاملين كُتبهم في حقائبهم، عائدين إلى فصولهم الدراسية.وها هي المرافق التعليمية تزخر بالنقاشات، وساحات الألعاب تنبض بالحياة وبأصوات اللعب والضحكات.

يبدو هذا المشهد طبيعيًّا في بداية كلّ عام أكاديمي،إلا أننا افتقدناه لأسباب متعّددة في الأعوام الثلاث الماضية.فعندما خيمت الجائحة على عالمنا، أُغلقت المرافق العامة والخاصة وتحوّلت المدارس إلى مبانٍ خاوية يسودها السكون ومَكثَ الأطفال في منازلهم معزولين عن أقرانهم ومع ذلك، استمروا في تلقّي التعليم أغلب الأوقات.

وتلبية لتداعيات الجائحة، اجتهد صنّاع السياسات، والمعلّمون، والشركات التكنولوجية وإن لم تكن تبلغ نتائج جهودهم حدّ الكمال، لكنّ ما أنجزوه معًا كان رائعًا بمختلف المقاييس.

حيث تعاونَت كلّ الأطراف مع بعضها البعض بسرعةٍ فائقة وبحثوا سويًا عن طرقٍ متنوعة لتعليم الأطفال سواء عبر الإنترنت، أو الراديو، وأي وسيلة أُخرى للتعلّم.

 

 

ورغم ذلك، تركت التصدّعات التي خلّفتها الجائحة في النظام التعليمي

 عددًا من الأطفال خارج المعادلة، فقد خسر بعض الأطفال أولياء أمورهم ومن يُشرف على تعليمهم، ولم يملك آخرون أي نوع من أنواع الأجهزة الإلكترونية سواء الحاسوب المكتبي أو اللوحي أو المحمول، أو حتى الهاتف الجوّال.

ومع ذلك، واصل ملايين الأطفال رحلة التعلّم في فترة الجائحة، عبر طرُقٍ تعليمية لم يسبق استخدامها، طُبقّت على نطاق واسع. وتبقى هذه حقيقة ثابتة.

خلال الجائحة، اغتنم القادة والمعلّمون وأفراد المجتمع الأزمة وابتكروا طُرقًا جديدة لضمان استمرارية تعلّم الأطفال.

ويرى البعض أن تعطّل التعليم جاء كردّة فعل عالمية على الجائحة، لكنّنا رأينا أن العملية التعليمية لم تنقطع. حيث واصل الأطفال هذه الرحلة، وعادوا إلى مدارسهم الأسبوع الماضي، بفضل الابتكار والإبداع في المقابل، يحُرم ملايين الأطفال من هذه الحقوق.

ويسلك الملايين من أقرانهم طُرقات محفوفة بالمخاطر للوصول إلى المدرسة.

ملايين من الأطفال لم يجدوا مدارسهم لأنها دُمرّت أو تضررت جراء العنف أو تحوّلت إلى ثكنات عسكرية، الملايين من الأطفال محرومون من التعليم بسبب النزاعات.

باغتتنا الجائحة، لكننا لم نقف مكتوفي الأيدي، وواجهنا هذه الأزمة بطرق مبتكرة وجديدة حفزّتنا على الإبداع وإحداث التغيير المنشود في العالم.

 

ولكنّ هذا هو العالم نفسه، الذي ما زال يَسمح بالهجوم على المدارس وقتل المعلمين، وإلحاق الأذى المُتعمّد بالأطفال الناجين من الهجمات من خلال منعهم من التعليم والمضي قدمًا في حياتهم، وتعمّد وضعهم خارج المسار الذي سيُرشدهم إلى مستقبل أفضل.

 

السيدات والسادة،

في أثناء مواجهتنا هذه الأزمة، حشدنا مواردنا على الفور، وابتكرنا طُرقًا للتعليم والتعلّم، استخدمنا تقنية "زووم" التي كنّا بالكاد قد سمعنا عنها قبل عام 2020،

وتبادل المعلّمون الشاشات الذكية التي حلّت محل الكتابة باليد على السَبُّورة

واستكشف الأطفال جانبًا جديداً من العمل الجماعي في غرف المحادثة الإلكترونية، لقد استجبنا للجائحة حينها ولم ننتظر تلاشيها لنتحرّك،                            فما الذي يمنعنا الآن من الاستجابة نفسها لابتكار الحلول في مواجهة أزمة كبيرة وهي: أزمة الهجمات على التعليم؟

 

قبل عامين، وفي خضّم الجائحة، ألقيتُ كلمة بمناسبة اليوم العالمي الأول لحماية التعليم من الهجمات

ولم تكن تلك المرة الأولى التي أتناول فيها هذا الموضوع،

منذ نحو ربع قرن، ونحن نسعى مع فريق عملنا لإقناع المجتمع الدولي أن تعليم الأطفال – جميع الأطفال- قضية مهمة لأننا نؤمن أن كلّ الأطفال مهمّون.

الأطفال الفقراء والمحرمون والذين يُعانون في مناطق الحروب والنزاعات، والأطفال الذين يحلمون بالنجاة منها.

 

 

 

 

أعوام مضت وكان عنوانها "اللامبالاة"، هذا ما أظهره قادة العالم وصنّاع القرار.

لكننا اتخذنا خطوات تدريجية ووضعنا قاعدة عالمية نُدين على أساسها الهجمات على التعليم، وفي أكتوبر الماضي، تبّنى مجلس الأمن الدولي بالإجماع القرار رقم 2601.

ثمّ ماذا بعد؟ منذ ذلك الحين، سُجلّت آلاف الهجمات التي استهدفت التعليم.

ارتفع عدد الهجمات على التعليم بمقدار الثُلث في عام 2020 مقارنة بالعام 2019، واستمر هذا الرقم في الارتفاع عام 2021.
 

كذلك تُشير الدلائل كافةً إلى أن هذا العدد سيستمر في التصاعد عام 2022.

من اليمن وأوكرانيا وفلسطين والصومال وإثيوبيا ونيجيريا ...وفي العديد من البلدان الأخرىتستمر الهجمات على التعليم بوتيرة مفجعة،  من مالي إلى ميانمار، من سوريا إلى السودان،من الكاميرون إلى كولومبيا، الهجمات على الطلاب والمعلمين والمدارس لم تتوقف.

 

 

 

 

هذه البلدان ليست مجرّد مساحات جغرافية على الخريطة وهؤلاء الطلاب والمعلمون ليسوا مجرّد أرقام وإحصائيات في وسائل الإعلام، إنّهم بشرٌ كانت لديهم حياة ولهم الحقّ في الحياة ومن حقّهم أن يختاروا نمط الحياة، وأن يتعلّموا ويُعلّموا دون خوف أو تعطيل.

والمفارقة أنّ من يمنع عنهم الحياة، ويُدمّر شغفهم بالتعليم، هم أيضاً بشر،هُم منظمات، وميليشيات، ودُول. هُم مجرمون.

بناءً على هذه المفارقة، لابُدّ من محاسبتهم على جرائمهم.لأن هؤلاء لن يتوانوا عن الاستمرار في  أفعالهم إذا واصلنا التغاضي عنهم، بل سيُواصلون استهداف الطلاب والمعلّمون والمدارس  إنّهم يستهدفون الطلبة عن عمد.

يُدمّرون المدارس، ويُعطّلون التعليم، لينهشوا قلب المجتمع وثقافته. يُمزّقون النسيج الاجتماعي، ويحُطمّون مستقبل كلّ طفل فيه.فتُصبح الآمال والأمنيات هباءً في دائرة تتوسع وتمتلئ بالفقر والعنف.

منذ عامين، أعربتُ عن استيائي الشديد من مشهد المدارس التي دُمرّت بعد أن بنيناها.

وعن خيبة الأمل من "لا مبالاة" المجتمع الدولي وإخفاقه في اتخاذ الإجراءات الرادعة،ووطأة الاستياء ما برحتْ في مكانها،إذ أشعر أحيانًا أنّ دعواتنا إلى المجتمع الدولي للتحرّك أشبه بالأسطوانة المشروخة، حَبيسة المكان نفسه، تتكرر يومًا بعد يوم.

 أحيانًا، وعندما يُصبح اليأس مصدر تهديد عالمي،أتساءل عمّا إذا كان النزاع في شمال الكرة الأرضية سيفتح قلوب من هُم في السلطة على فهم الواقع المأساوي الذي يعيشه الناس في مناطق الحروب بكافة أنحاء العالم فهل سيتعاطف هؤلاء مع الناس؟ هل سيؤدون واجبهم كما ينبغي؟

الحرب وقعت في أوروبا نفسها، ويرى البعض أن هناك ما يجب القيام به في نهاية المطاف، وبالفعل هبّ العالم لتوفير الدعم إلى عدد من اللاجئين،

وفي القلب الآخر من العالم،لا يزال الأطفال ضحايا النزاعات غير مرئيين ومُتجاهلين، بالرغم من التعليم هو سلاح الأطفال الوحيد في مواجهة ذلك.

بالتعليم، نُزوّد أطفال العالم وشبابه بالمهارات التي تُعينهم على إيجاد فرص حقيقية لهم في سوق العمل، ونُمكّنهم من الإسهام في تنمية مجتمعاتهم، وتوفير الغذاء لأنفسهم ولأُسرهم.

بالتعليم، نغرس في عقولهم مزايا التفكير النقدي البنّاء والقدرة على التكيف في مجتمعاتهم.

إيماننا باقٍ بأنّ لا أفضلية لطفل على آخر ، فكل طفل بالنسبة لنا يستحق فرصة تحقيق إمكانياته وشحذ ذكائه،لأن المستقبل حقّ لكلّ طفل. ولم يعد بالإمكان تجاهل هذا الحقّ بعد الآن ،وإن كان موضوعنا اليوم بعنوان: "حان وقت العمل" إلا أننا نُدرك أن وقت العمل قد حان منذ زمن، وأنه قد مضى وقت طويل على العمل، الاجتماع مرّة واحدة سنويًا لم يعد كافيًا، وإن كان مناسبة لنُبدي فيه تعاطفنا، وفرصة لنُجدد من خلالها التزامنا وهذا أمر مهمّ ولكنّ الالتزام لا يعني شيئًا إذا لم نعمل به، فقد حان وقت العمل!

وسط مشاعر الاستياء نبحث عن جرعة أمل، لذا، سألتُ فريق عمل "التعليم فوق الجميع" عمّا يُمكننا القيام به في ظلّ غياب التحرّك الدولي الفاعل،

وكيف لنا أن نكسر هذا الجمود؟

وأن نُحاكم الذين يتعمّدون تدمير التعليم، وأن ننتصر للعدالة؟

ولهذه الغاية، نعملُ جنبًا إلى جنب مع "كوبو" واليونيسكو، على تطوير "ترايس"، وهي بوابة نعرض من خلالها البيانات ونُحللها بطريقة فريدة من نوعها، لتيسير الوصول إليها، ويُمكن استخدامها من قبل الطلاب والأكاديميين والصحفيين وواضعي السياسات وجميع الراغبين بفهم خطورة الهجمات على التعليم ورصد عددها، على أن تكون هذه البوابة نقطة الدخول المرجعية للإحصائيات والمعلومات والموارد المتعلقة بهذا الشأن.

إننا ندعوكم، والشركات المتخصصة بالتكنولوجيا،للانضمام إلينا في فتح آفاق هذه البوابة، وتوسيع مداها لكي يتمكن الجميع من تأطير الهجمات على التعليم في كافة أنحاء العالم، ولنُسهم سويًا في جمع وبناء الأدلة الحاسمة من أجل تطبيق المساءلة،حيث لا مزيد من الأعذار في جعبة المجتمع الدولي.

كما أدعوكم إلى التركيز على إيجاد الطُرق التي يُمكن من خلالها توفير التعليم لجميع الشباب اللاجئين والنازحين وجميع الأطفال في هذا العالم، فمن واجبنا كمجتمع دولي واحد، أن نُعزّز جهودنا ونتعلّم من إخفاقاتنا، ومن حقّ الإنسانية علينا أن نبذل كلّ ما لدينا من جهود، وأن نُفكّر معًا، ونتبادل الأفكار،ونُوظّف إبداعاتنا وخبراتنا وإرادتنا من أجل تحقيق النجاح الذي نتطلع إليه.

من غير المُنصف أن يبقى المجتمع الدولي في وضعية اللامبالاة،وأن يقضي على ما تبقى من الآمال التي يحملها التعليم للمتضررين من الهجمات.

حان وقت العمل على تطبيق المبادئ وتجسيد الأخلاقيات التي طالما زعمنا كمجتمع دولي التحلّي بها.