خِطَابُ صَاحِبَةِ السُمُوِّ الشَيْخَة مُوزَا خلال "الْقِمَةِ الْعَالَمِيةِ الثَانِيَةِ لِلتَنْمِيَةِ الاجْتِمَاعِيَةِ"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحضور الكريم،
مرحباً بكم.. يَسُرُنِي أَنْ أُشَارِكَـكُم هَذَا الاجْتِمَاعَ بِمُنَاسَبَةِ انعقاد "الْقِمَةِ الْعَالَمِيةِ الثَانِيَةِ لِلتَنْمِيَةِ الاجْتِمَاعِيَةِ" بالدوحة.
اليوم يَلتئِمُ شَمْلُ الأُسرةِ الدَّوْليةِ من أجلِ استشرافِ غَدٍ مُشْرِقٍ يجعلُ مِنَ رفاهِ الإنسانِ غايةً، حيثُ تكونُ العَدالةُ الاجتماعيةُ ميزاناً للتنميةِ، والكرامةُ الإنسانيةُ بُوصَلةً للسِيَاسةِ، كَي نَخرُجَ مِنْ ضجيجِ الوُعودِ الحالِمةِ إلى سِجلِّ الإنجازاتِ الواقعية. بعد ثَلاثِينَ عامًا من قمّةِ كوبنهاغن، نجتمعُ اليومَ في جَلْسَةٍ من جلساتِ قمة الدوحة تَحمِلُ عُنوانَ "التعليمُ أساسٌ للعَقْدِ الاجتماعيِّ الجديدِ".
إن القمّةَ المنعقدة من أجلِ مُقارَبةِ مِلَفِّ التَنْمِيَةِ الاجْتِمَاعِيَةِ تكتَسِبُ أهميةً إضافيةً مُتنامِيةً في عالَمٍ تَتعَاظَمُ فيه التَّحوُّلاتُ الديموغرافيةُ، وتَتفاقَمُ الفَجَواتُ الاجتماعيةُ، وتَتَسارَعُ التطوُّراتُ التكنولوجيةُ، وبالتالي تَشتَدُّ وَطأةُ الأزَماتِ التي تعصفُ بالتعليم.
وأؤكّدُ لِكم أنَّ مَبادِئَ إعلانِ وبَرنامَجِ عمَلِ كوبنهاغن بشأنِ الحاجةِ إلى جَعْلِ الناسِ مِحوَرَ التنميةِ لَمْ تَفقِدْ صلاحيتَها؛ وإنما استجدَّتْ تَحدِّيَاتٌ، خصوصاً على السَاحةِ التعليميةِ، ضاعَفَتِ الحاجةَ إلى تجديدِ العَزمِ لتَفعِيلِها على أرضِ الواقعِ.
السيدات والسادة،
لا أريدُ أنْ أتحدّثَ في البديهيات وما تعرفونَ وما يعرفُ الجميع، ولكنني أعتقدُ أنَّ علينا أنْ لا نهرُبَ أو نتهرَّبَ من الأسئلةِ الجوهرية لأنّ الإجادةَ في صياغةِ السؤال تؤهّلُنا للعثورِ على الجوابِ الصائب. وإذا ما تساءلنا عن امكانيةِ إيجادِ حلولٍ مستدامةٍ لقضايا التنميةِ الاجتماعيةِ في العالم وخصوصاً في البلدانِ النامية، فإنني أعتقدُ أنّ الامكانيةَ متاحةٌ إذا شئنا، ومعدومةٌ إذا اخترنا التغاضي وعدمَ الاكتراث. وكيف للتنميةِ الاجتماعيةِ أنْ تُؤتي ثِمارَها دُونَ إرساءِ دعائِمِ عدالةٍ شامِلةٍ تُصحِّحُ مَساراتِ الخَلَلِ وتُقـوِّمُ مَوَاطِنَ الزَلَلِ؟! كيف؟
فَلا تَنميةَ مَعَ تَميِيزٍ، ولا استقرارَ مَعَ تَهمِيشٍ، ولا ازدهارَ مَعَ إقصاءٍ.
والحالُ هذه، يجبُ أن لا يتصالحَ العالمُ مع حقيقةِ أنّ هناك مائتين واثنين وسبعين مليون طفلٍ خارجَ المدارس، بحسبِ احصائية اليونسكو لعام ألفين وثلاثة وعشرين، ولكم أن تتخيلوا كم زادَ هذا العدد خلالَ العامين الماضيين جرّاء الصراعاتِ الدموية القائمةِ في أكثرِ من بقعةٍ في العالم.
فهذه الإحصائياتُ المُفْجِعَةُ والأرقامُ المُوجِعةُ تَحْمِلُ في طَيَّاتِها رسائلَ ناطِقةً تَستنجدُ بالضميرِ الإنساني، وتَستوجِبُ التحرُّكَ الفَورِيَّ نَحوَ تَرجَمةِ السياساتِ والقراراتِ إلى أفعالٍ ومُنجَزاتٍ، فالتنميةُ الاجتماعيةُ لَيْسَتْ مَصفوفةً جامدةً وَلا عِبَاراتٍ زائفةً، ولا هي بهرجٌ إعلاميٌّ أو استعراضٌ أجوف لواقعٍ غائب، بَل هِيَ حكايةُ إنسانٍ يَنهَضُ بمُجتَمَعِه حينَ يَجِدُ مَنْ يُـنْصِفُهُ، ويَصنَعُ المُعجِزةَ حِينَ تُتاحُ لهُ فُرصةٌ للإبداع.
وللإنسانِ العربي ألفُ حكايةٍ وحكاية، دعوني أسردُ عليكم واحدةً منها. فالعربيُّ الذي نشأَ في محيطِهِ وترعرعَ على قيمِهِ وحَلُمَ بأن يكونَ يوماً ما مواطناً مؤثراً فاعلاً في حركةِ تنميةِ وطنِه الأكبر، ما يلبثُ أنْ يصطدمَ بحاجزٍ تلوَ آخر، وفي مُحاولاتِه المتكررةِ واليائسةِ من أجلِ تجاوزِها يقرّرُ أن يبحثَ عن وطنٍ آخرَ يحتضنُ حُلمَهُ ويحقّقُ آمالَهُ. ذلك طلبٌ للخلاصِ الفردي بعدَما استعصى تحقيقُ الأحلام.
هناك في الوطنِ البديل تبدأُ رحلةُ الإبداعِ والتميز، أمّا وطنُنا العربي الأكبر سيبقى في وضعيةِ التدحرجِ إلى الوراء لحينِ الاهتداءِ إلى معادلةِ التنميةِ الأصح التي تجعلُ من الإنسانِ مبتداها وغايتَها.
الحضور الكريم...
إننا نتحدثُ كثيراً عن التنمية لكننا أيضاً كثيراً ما نعزفُ عن الأخذِ بعناصرِها الحقيقية، وأبرزُ هذه العناصر هوَ الإنسانُ ذاتُهُ، الذي يشكّلُ جوهرَ التنميةِ ومقصَدَها الأسمى. وإذا كانَ الإنسانُ أثمنَ رأسمال، فإنّ التعليمَ يظلُّ رأسَ المالِ الأبقى، فهوَ المنبعُ الذي تتفرّعُ منهُ روافدُ التقدم، والأساسُ الذي تُشادُ عليه صروحُ التنميةِ المستدامة، فالتعليم ليس قطاعاً من قطاعات المنظومة المجتمعية، بل هو القطاعاتُ كُلُّها مجتمعةً فلا اقتصادَ ولا سياسةَ ولا صحةَ ولا ثقافةَ ولا حتى بيئةً مستدامةً بلا تعليم، وإذا ما عجِزنا عن تطويرِ التعليمِ تطويراً مبتكراً ومستداماً بما يواكبُ التحولاتِ المتسارعةَ في عالمِ التكنولوجيا وأدواتِها فلنْ يُكتبَ النجاحُ لأيِّ مشروعٍ تنمويٍّ، اقتصادياً كان أو ثقافياً أو اجتماعياً، وسندورُ في دوّامةِ الفشلِ والتراجعِ والعجزِ، ولنَ يكون لنامكانٌ في خريطةِ السباقِ التنموي.
وبقدرِ ما نراهنُ على الاستثمارِ في التعليم نكون قادرين على تحسين مستقبلِ الإنسان، وبقدرِ ما نغفلُ عن أهميةِ التعليمِ والاستثمارِ فيه سنفقدُ البوصلةَ نحوَ الآفاقِ المفتوحةِ على أسبابِ التقدم. وإنّي لعلى يَقِينٍ راسخٍ بأنَّ النجاحَ في تَحقِيقِ التَنمِيَةِ المُسْتَدامةِ لَيْسَ حِكرًا على مَنْ يَملِكُ المَوارِدَ الأَوْفَرَ فحَسْب، بلْ علَى مّن يُحسِنُ إدارتهَا واستِثْمَارَها.
وهذهِ هيَ الرُّؤيةُ التي دَفعَتْنا في قَطَر إلى تأسيسِ مسارٍ تَنموِيٍّ يضع الشبابَ في مَكانِهم الطبِيعِي في صِياغةِ المُستقبَلِ، مُتعلِّمِينَ، ومُبتَكِرِينَ، ورُوّادَ أعمالٍ ومُواطِنِينَ مُشارِكِينَ في صُنعِ القرار.
ولَقَدْ أَثْمَرَتْ تِلكَ الرؤيةُ المُلهِمةُ عَنْ نجاحاتٍ مُبْهِرةٍ، تَجلَّتْ في استثمارِ الدولةِ لمَوارِدِها الطبيعيةِ وتأهيلِ طاقاتِها البشريةِ، واستحداثِ فُرَصِ عَمَلٍ مُواتِيةٍ بَدلًا مِنِ استنساخِ وظائفَ تَقليدِية. وانطلاقًا مِنْ إيمانِها الراسخِ بتَكامُلِ أهدافِ التنميةِ المستدامةِ وتَرابُطِها، لَمْ تَدّخرْ قَطَر جَهداً في إرساءِ دعائمِ السلامِ وركائزِ الدبلوماسيةِ وجَعْلِها في صَدارةِ أهدافها للتنميةِ الاجتماعية.
الحضور الكريم،
ثَمّةَ حكايةٌ أخرى لطفلةٍ سلبَها المحتّلُ أجملَ لُعبِها، اللعبةَ الأقربَ لقلبِها: قلمَها، ذلك القلم الذي كانتْ ترى فيه مِفتاحَ مستقبلِها وسلاحَها الصغيرَ في وجهِ الظلمِ والحرمان. سُرق القلمُ لكنّ الحُلمَ لم يُسرقْ، وظلّ الأملُ شُعلةً تضيءُ في قلبِها الصغير. جمعتْ رمادَ ما حولَها من ركام وصنعتْ منهُ قلماً ونصبتْ خيمةً من قماشٍ بالٍ لتكونَ لها ورفيقاتِها مدرسةً تعلّمُهم أنْ الحروفَ لا تُهزم وأنّ الكتابةَ قد تولدُ من بين الركام بشارةً بالحياة ومقاومةً للمحو.
وحين توقّـفَ إطلاقُ النار في غزة كانت تلكَ الطفلةُ ومَن معَها في مقدِّمةِ الأطفالِ الذين هُرعوا بأقلامِهم وأوراقِهم الممزّقة إلى قاعةِ الامتحان، بالرغمِ من أنّ أكثرَ من تسعين بالمئة من مدارسِ غزة دُمرتْ كلياً أو أصبحت غيرَ قابلةٍ للاستخدام. أدركَ هؤلاءِ الأطفالِ بفطرتهم أنَّ التعليمَ ليسَ حاجةً كماليةً بل ضرورةً للبقاء وطوقَ نجاةٍ إلى مرفأٍ آمنٍ بعيداً عن الخوفِ والجهلِ والضياع ومحاولات افنائهم.
إنّ التعليمَ هو الركيزةُ الأولى للتنمية، فلا تنميةَ بلا معرفة ولا نهضةَ بلا عقلٍ مستنير، فالتعليمُ ليس ترفاً ولا امتيازاً ولا مِنَّةً بل هو حَقٌ ومسؤوليةٌ وأداةٌ لتحريرِ العقل وبناءِ الكفاءاتِ وصونِ القيمِ وتوليدِ الأفكارِ التي تغيّرَ وجهَ العالم، والتعليم قبلَ كلِّ شيءٍ قضيةُ وجود وبقاءُ أمةٍ أو فناؤها. فالتنميةُ الحقيقيةُ المستدامةُ التي نريدها يجب أنْ يكونَ التعليمُ صِنواً لها لا يتخلّفُ عنها أبداً.
فلنبدأ من المدرسةِ والجامعةِ والمختبرِ والمكتبة، فهناكَ تُصنعُ العقولُ التي تبني الأوطان، وهناك يُكتبُ المستقبلَ الذي يُغني عن المنافي والأوطانِ البديلة، ولا يُسلَبُ فيه قلمٌ من يدِ طفلةٍ حالمةٍ بالسلام.
السيدات والسادة..
إنّها حكاياتُ أوطانِنا العربية التي تتفاوتُ في نُشدانِها الصلةَ الأمثلَ مع المستقبل.. تنهضُ في مكانٍ، وتتعثرُ في آخر، وهي تشبهُ حكاياتٍ أخرى في أوطانٍ أخرى. تتشابهُ الحكاياتُ وتتشابهُ الأوطانُ في سيرِها على مضمارِ التنميةِ الاجتماعية.
وحظُّ الدولِ من هذا المطلبِ يتفاوتُ بمقدارِ تفاوتِها في الإمساكِ بجوهرِ العمليةِ التنمويةِ باعتبارِها وصفةً بين الأحلامِ والطاقاتِ البشريةِ والاستخدامِ الأمثل للمواردِ الطبيعية، أمّا مبتغاها الأسمى فنهوضٌ بالإنسانِ يحققُ حاجاتِهِ الماديةِ والروحَية بأتمِّ ما يكون التحقيق.. ذلكَ سعيٌ متّصلٌ لا ينقطعُ فما انفكَّ الإنسانُ يطلبُ في ترابِ وطنِهِ ما لا يطلبُهُ في غيرِهِ: طمأنينةً في الانتماء ومشروعيةً في الحُلم..
حُلِمِ المستقبلِ المنفتحِ على امكانياتٍ لا نهايةَ لها كما تشيرُ إلى ذلك بحقْ التجربةُ الإنسانية من بدائيةِ الكهفِ إلى اكتشافِ مجاهيلِ الفضاء ومن ظلامِ الجَهالات إلى نورِ العلم.
دعونا نحلمُ بالحُلمِ الأجمل… الحُلمِ المشترك.. الحُلمِ الذي لا يستثني أحداً..
حُلمِ التنمية.
والسلام عليكم ورحمة الله.