الدوحة، قطر، 24 نوفمبر 2025
وسوم : مؤتمر وايز

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الحضور الكريم

السلام عليكم.

نبدأ اليوم قمتنا بدعوة لكم مفتوحة للإبداع والابتكار في التعليم. فمنصة وايز كما تعلمون لم تنشأ لأجل التداولات التقليدية في التعليم، ولا لإعادة انتاج الأسئلة القديمة بصياغات جديدة، بل وجدت لتكون مساحة لاستنفار العقل، مساحة تحفز الفكر على كسر القوالب، وتدفعنا جميعا إلى التفكير خارج الصندوق في قضايا التعليم.

إننا في وايز نؤمن، أنّ التعليم ليس قطاع خدمة مثل غيره من القطاعات، بل هو حق متوارث لا نقاش فيه، وهو ركيزة تبنى عليها الكرامة الإنسانية والعدالة والنهضة. ولا ينبغي أن يكون التعليم سلعة ولا امتيازا، ولا منة لأحد فيه على أحد.

وإذا كنا قد تحدثنا كثيرا عن التعليم باعتباره حقا أصيلا، وتحدثنا عن النجاحات الباهرة في مجال تحسينه، والارتقاء بجودته، فلربما حان الوقت للحديث عن الوجه الآخر للمسألة، أعني معطّلات ومعوّقات النهضة التعليمية. النهضة التي يكون من شأنها تحفيز الابتكار بما يضيّق الفجوة، بين الذين هم في مقدمة الركب وبين الذين هم في آخره، وتسريع وتيرة اللحاق للذين يقفون بين هؤلاء وأولئك، ليحجزوا مكانهم في صدر الموكب الإنساني المندفع  نحو المستقبل.

فأين موقعنا نحن في هذا الموكب؟ وسؤال الموقع سيحيل مباشرة إلى سؤال الوجهة، فأي مستقبل نريد؟ وماذا في يدنا من مطلوبات هذا المسعى النبيل؟ 

صحيح أنّ المجتمع الإنساني عند التحقيق، ليس مجتمعا واحدا، بل هو في حقيقته مجتمعات تعيش في أزمنة معرفية متباينة. وهو تباين قد يكون بسبب عجز مؤسسي متوارث لهذه الدولة أو تلك، ولهذا الإقليم أو ذاك من العالم. 

ويمكن القول بتعميم غير مخل إن المنطقة العربية والأفريقية وأجزاء من أمريكا اللاتينية وآسيا تسجل غيابا شبه كامل، عن منصات التتويج الكبرى، في مجال الكشوف والاختراعات. أمّا حالات النجاح القليلة التي حققها أفراد، فإنما كانت تتمّ في سياق ما عرف بهجرة العقول، أو فرارها إن شئتم إلى بيئة علمية خارجية مواتية ومحفزة. 

وهنا يقفز سؤال لا مهرب منه: أين مكمن علّة العجز والغياب؟ هل هو في الإنسان؟ 

أم في بيئته الإجتماعية والعلمية؟ والسؤال يستدعي سؤالا آخر: إذا كان الحال كذلك، فكيف يمكن لمجتمعاتنا أن تحقق شروط اللحاق.. فالمواكبة.. فالمنافسة؟

إننا في (وايز) مدركون تماما أن هذه الشروط متعلقة بتطوير للعملية التعليمية لا يتوقف. ولذلك أفردنا (جوائز وايز) لتشجيع الحلول المبتكرة في مجال تجويد التعليم.

ونحن بصدد إطلاق مؤشر جديد لقياس جودة التعليم، يتميز بأنه لا يكتفي بقياس الجوانب الأكاديمية فحسب، بل يربط المنظومة التعليمية بمجموعة من القيم الاجتماعية والثقافية التي تشكّل جوهر التجربة التربوية.


 

 

أيها السيدات والسادة

إن المنجز الإنساني في مجال العلم والتعليم يدعو إلى الشعور بالزهو والفخر، بما حققته البشرية من تقدم علمي وتكنولوجي، بعض ثماره كانت في الماضي، محض خيال علمي. 

وما تزال البشرية تراكم خبراتها ومعارفها وهي تقطع آلاف السنين بين عصر وعصر، حتى تحققت لها الفتوحات العظيمة في كل شأن من شؤون الحياة. 

ثم صارت تحتاج إلى قرن من الزمان أو أقلّ منه للانتقال من حقبة إلى حقبة. 

كلمة واحدة نهض على أكتافها كل هذا التراث الضخم. إنه العلم. ففي البدء كانت الكلمة ..وكان القلم ..وكانت الكتابة.

مسيرة البشرية في تطورها هي في حقيقتها مسيرة العلم والتعليم والتعلم.

لكنّ البشرية التي قفزت هذه القفزات الهائلة منذ عصرها الحجري تدفع الآفاق دفعا، 

دخلت اليوم منعطفا جديدا، أصبحت فيه سرعة حدوث الأشياء أكبر من حدود قدراتها، وأسرع من كل تحوّط وجاهزية لمواجهة وتيرة التغيير. وهذا واقع بات يفرض مخاطر لا يمكن التهوين منها.

إذ لأول مرة يتنازل الانسان عن ذكائه لصالح الذكاء الاصطناعي، وعن أساليبه في فعل الأشياء لتقوم بها برمجيات الذكاء الاصطناعي فائقة الذكاء فائقة السرعة.

وربما لن يمضي وقت طويل قبل أن تكون تطبيقات الذكاء الاصطناعي ومن يسيطر عليها قد أحاطت بمجمل النشاط الإنساني، إلى تلك الدرجة التي قد يفقد الإنسان معها حريته وينتهي إلى عبودية التكنولوجيا.

وهنا أيها السيدات والسادة 

تبرز أمامنا ما يمكن اعتبارها أم القضايا الضاغطة على مسيرة تطورنا العلمي وغاياته، وهي قضية العلم والقيم والأخلاق. وفي ظل المتغيرات فائقة السرعة في مجال الذكاء الاصطناعي، نتساءل: أيّ تعليم نريد؟ وأي تقدم نصبو إليه؟ وهذا سؤال في المعنى الفلسفي الأخلاقي للتقدم، من حيث إرادته تحقيق الخير والنفع العام للإنسان.

وحين نقول التقدم، فإننا نعني قاطرته الوحيدة منذ فجر التاريخ وهي العلم ولا شيء غيره. وخلوّ العلم من المعنى ومن القيم والأخلاق يقدم شواهد لا حصر لها في إمكانية تحوّله إلى شر مطلق. 

فأسلحة الدمار الشامل مثلا ليست سوى ثمرة فاسدة من ثمار العلم المتحلل من المسؤولية الأخلاقية تجاه الجنس البشري... وتجاه الحياة كلها. 

فالإنسان إذا انقطع عن الأخلاق والقيم، يتحوّل إلى كائن بلا وعي ولا ضمير، وما الحروب ومسارح سفك الدماء المنتشرة من غزة إلى السودان وغير ذلك من بقاع الأرض، سوى مظهر من مظاهر غياب الحس الإنساني السوي الذي يجعل من مآسي الآخرين ملهاة عبثية. وتلك لحظة تتكشّف فيها العورات الأخلاقية كلها.

أيها السيدات والسادة

لمّا كان الفعل الإنساني هو الذي ينزع بالأشياء إمّا نحو الخير و إمّا نحو الشر،

فقد صار لزاما علينا في ظل المحاذير التي تكتنف التطور التكنولوجي أن نمعن النظر والتأمل العميق في كيفية تحرير العلم والبحث العلمي من الوقوع في فخ إغواء الاكتشاف المنفلت من كل ضابط.وأن نستشعر مسؤوليتنا تجاه المجتمع الإنساني كله.

ولذلك كان ضروريا أن تنعقد قمة وايز هذه المرة تحت عنوان: القيم الإنسانية في صميم النظم التعليمية. وهذه قضية تثير أسئلة جوهرية معقدة حول التعليم من حيث: مناهجه، وأساليبه، وبيئته، وعلاقة الأطراف المنخرطة فيه. بل تثير سؤالا جوهريا حول من يسيطر على العملية التعليمية في عالم اليوم؟ ومن يتحكم في تدفق المعرفة ولأية غاية؟ وهذه أسئلة تقع في سياق تكنولوجي سريع التغيّر، عميق الأثر.

فمثلا هل سيغير الذكاء الاصطناعي طرائق التعليم ونوعيته؟ هل ستنتهي فكرة (الفصل) في المدرسة؟ و(القاعة) في الجامعة؟ وهل سيكون من نتيجة ذلك تحرر العملية التعليمية تماما من (الانحصار) في المكان المعلوم؟ هل يمكن أن يوفر الذكاء الاصطناعي شكلا جديدا من التعليم تقلّ فيه، أو تنعدم الحاجة إلى (جماعية التلقي للمعرفة)، لتقوم مقامها (فردانية التلقي) المعتمدة على مخاطبة الفروق بين فرد وفرد؟ 

هذه الأسئلة وغيرها لا تمنحنا ترف انتظار الذكاء الاصطناعي لنرى نتائجها ماثلة، بل علينا خوض غمار ابتداع الحلول، واجتراح التصورات لما يمكن أن يكون عليه تعليمنا في ظل المتغيرات الكثيفة والمضطردة.

إنّ الذكاء الاصطناعي الذي ينظر إليه اليوم في بعض الدوائر العلمية كمهدد للوجود الإنساني، وكمهدد للحقيقة كما عرفها الناس، يشكل من ناحية أخرى تحديا حقيقيا من جهة تأثيره على العملية التعليمية. وهذه قضية بحاجة إلى كثير من الدرس والفحص المتأني من أجل التوصل إلى نتائج تحوّل الذكاء الاصطناعي من نقمة تخشى إلى نعمة ترتجى. 

إن العالم اليوم الذي يتمتع بوفرة من فرص الحياة الجيدة، التي أتاحها العلم، هذا العالم هو في خطر كذلك من أن يفقد الانسان فيه حريته، وربما إنسانيته بسبب ما انتجه العلم، وهنا تتجلى المفارقة الكبرى.

 

السيدات والسادة

إن جعل القيم الإنسانية في قلب العملية التعليمية يمثّـل رد اعتبار للعلم وللإنسان:

للعلم، بألا يكون طاقة شر. وللإنسان، بتحقيق كمال إنسانيته وكرامته. 

إنّ التزامنا المشترك: تعليم تتعزز فيه قيم الحق والعدل والجمال.

وإنّ غايتنا: علم من أجل الإنسان؛ يحرره ولا يستعبده.

 

تمنياتي لكم بالتوفيق والسلام عليكم.